قصة "الوحيدة"

 كانوا ينزلون بأمها على السلالم... تعلق شخص ما بذراعها... تغيرت ملامح وجه الأم الشاحب ربما بسبب الضعف أو بسبب الألم... واستدارت عيناها، وانكمش شعرها المبلل... كانت تنزل من على السلالم، وتذهب إلى مكان ما وهي تجر قدميها الواهنتين خلفها... كانت تبتعد عن هذا المكان... كانت تتفحص وجه أمها عن قرب شديد، كان واضحًا جدًا لدرجة أن قلبها كاد أن يتوقف... انظر... منذ متى لم ترَ هذا الوجه الجميل المألوف؟! خمس سنوات، عشر سنوات ؟!. اختلط كل شيء...

تنهدت، عصرت ذاكرتها، فكرت بعمق شديد.. وفهمت...

كانت أمها تذهب إلى الموت...

اجتمع كثير من الناس في فناء المنزل لتوديعها... منهم من تعرفهم، وآخرون لا تعرف عنهم شيئًا... سوف تركب أمها السيارة وترحل، ولن تراها ثانية لسنوات طويلة، أو ربما لن تراها مرة أخرى... كانت تنظر إلى سواد عيني أمها الذي بهت لونه وشحبت عينيها من المرض، وإلى جلد خديها المجعد قليلًا. ورغم أنها أخذت تقبل يدي أمها الباردتين بشفتيها الدافئتين، فلم يسر الدفء إلى أمها... خرت على ركبتيها أمام أمها، واحتضنت قدميها باكيةً وهي تقول:

-       لا تذهبي، يا أماه... فداك نفسي، لا تذهبي... أشعر بالوحدة من دونكِ، يا أماه، أتألم...

كانت ركبتا أمها لينة ودافئة كالعادة، كانتا تبتلان كلما قبلتهما، من دموع عينيها... رأت وجه أمها من أسفل لأنها كانت جاثية على ركبتيها... كان وجه أمها هذا يبدو من بعيد كوجه أحد أقاربها ممن رحلوا عن الدنيا منذ زمن... كانت أمها لا تشعر بقبلاتها وركبتيها المبللتين بدموع عينيها... تبدو وكأنها تاهت في الآفاق البعيدة، مركزة في وجه شخص ما...

-       اهتمي بالأولاد، الصغير يعاني من السعال الشديد!! ...

قطعت هذه الكلمات التي قالتها أمها بهدوء شديد قلبها كالسكين... لم تستطع أن تتمالك نفسها، وأجهشت بالبكاء وهي تحاول تمالك نفسها عدة مرات...

قالت أمها بصوتٍ غاضب:

-       اكتمي صوتك... كفاكِ نواحًا... عيبٌ عليك...

نظرت حولها... كانت لا تعرف أحدًا مطلقًا... ثمة أناس غرباء يقفون صامتين بوجوه متجمدة، وينظرون إليهما... وبالرغم من أنها كانت تبكي صارخةً وتزحف على ركبتيها، فلم تسمعها أمها هذه المرة...

-       لا تذهبي يا أماه !!! ...  لا تذهبي. ي. ي!.

كانت أمها لا تسمعها... ترفع إحدى قدميها مترنحة من وهن المرض، وتركب السيارة... لحقت بأمها زاحفةً على ركبتيها، احتضنت قدميها، وكادت أن تختنق من البكاء وأنفاسها تتعالى.... ثم انتبهت فجأة، فقد وضعت على فمها يدي أمها وقبَّلتهما، كانت قد أخرجتهما منذ قليل بصعوبة من اللفافة وضمتهما إلى صدرها، كأنها طفلة صغيرة ترضع وتثبت نظرها في وجه أمها في صمت... التفتت حولها... كانت سيارة النقل التي ركبتها أمها تبتعد شيئًا فشيئًا... خلع الغرباء أغطية رؤوسهم، وكانوا يُلوحون بها خلف السيارة... كانت السيارة تذوب وتختفي وسط الثلج الذي كان يتساقط بغزارة... استيقظت ونظرت حولها... كانت ابنتها تنام بجوارها وفمها شبه مفتوح، لم يطلع النهار بعد.

أغمضت عينيها وكتمت نَفَسَها... وبالرغم من أنها حاولت أن تجمع أحداث حلمها، فإنها كمن يجمع الزئبق المسكوب، فقد تلاشت كل الأحداث هاربة من ثقب ما بذاكرتها، وتبخرت في الهواء.

شعرت بغصة في حلقها... دفست وجهها في الوسادة حتى لا يخرج صوتها، وبكت. كانت هذه هي المرة الأولى خلال ست سنوات بعد موت أمها، ترى فيها وجه أمها بهذا القدر من القرب... كأنها التقت مع أمها اليوم، بل قبل عدة دقائق... هنا في سريرها، في هذا المكان الذي تنام فيه.

تذكرت التفسيرات الخاصة بالأحلام التي وردت في المقالة التي قرأتها الأسبوع الماضي:

"أنتم الذين تأتون في أحلام الناس الذين تشاهدونهم في الحلم"... ارتعدت... هذا يعني أنها خطرت ببال أمها... نعم أمها اشتاقت إليها... كلما فكرت على هذا النحو، زادت في النحيب، وتذكرت ما قالته لأمها في الحلم باكية... فكرت: يا تُرى أتعرف أمها أنها تحيا حياة سيئة، أو بمعنى أصح أنها لا تستطيع أن تعيش بصفة عامة؟ أتفهم أن كل شيء مجرد عبث، وأن الحياة من دونها بالنسبة إليها ليست شيئًا آخر سوى العبث والتفاهة؟ وإن تفهمت هذا، فلِمَ لا تُشفق عليها ؟!

سحبت اللحاف على وجهها، وفكرت وهي تتنهد أن أمها علّمتها أنها لن تستطيع أن تعيش بدونها. وها هي بالفعل لا تستطيع أن تعيش؛ فلتتحمل المسؤولية كاملة، ولا تبحث عن الحُجج الواهية، وتُسود حياة الآخرين.

تخيلت أمام عينيها وجهي زوجها وحماتها المستديرين من الخوف والقلق... هزت حماتها رأسها وهي مهمومة، وقالت:

-       لماذا تفعلين هذا يا بنيتي، إن هذا لا يُرضي الله؟ أيوجد في هذه الدنيا من عاش أبواه للأبد؟ أنت شابة، فلتترفقي بزوجك وأولادك.

ثم تذكرت أنها ذات يوم اختلقت حُجة، وأخافت الجميع.

اعتقدت ذات مرة أنها أصيبت بمرض عضال. تتذكر تلك الأيام، لقد اصفرَّ لونها وشحب بالفعل. كانت لا تستطيع لعدة أيام أن تتذوق أي شيء، واللقمة التي تضعها في فمها تقف في حلقها، وتسبب لها الغثيان. وتتذكر آنذاك أنها تفقدت وتحسست جسمها كالذي يدرس منطقة خطرة مليئة بالألغام، فوجدت شيئًا ما يشبه الورم تحت ضلعها الأيمن، طافت على الأطباء واحدًا واحدًا، وجمعت ملفًّا مليئًا بالتشخيصات العجيبة، وطبقًا للنتيجة العامة لهذه التشخيصات، كان لديها عدة أيام فقط على قيد الحياة. وها هي أصبحت طريحة الفراش قبل أن تموت في مكانها. آنذاك، تتذكر أن كل الأمور اختلطت بعضها ببعض، تجمع عندها فريق استشاري من أشهر أطباء المدينة، وامتلأ بيتهم بمختلف الأجهزة التشخيصية، وامتلأ الدولاب الموجود بجوار سريرها بأكوام العلاج، ومختلف أنواع الأعشاب.

وبعد فترة، بدأت تكره زوجها بشكل واضح. كانت جميع الأحداث والمواقف غير السارة التي مرت عليها مع زوجها تتفاقم في ذاكرتها مرة كل يومين، وتواجهها وجهًا لوجه كالجدار المنيع، وضاقت الدنيا أمام عينيها، وجعلتها مثل الحوض المظلم. تراكمت كل هذه الأشياء فوق بعضها، مكونة مشهدًا ينذر بمستقبل مأساوي. يرتبط موت أمها هنا باستهتار زوجها وعدم اهتمامه بها وبأسرته، ويرتبط أيضًا بسائر الإخفاقات الأخرى.

وبعد فترة أخرى، تتذكر أنها بدأت تكره الدنيا بأسرها.. كان لا يستطيع أي شيء أو أي شخص في هذه الدنيا التافهة أن يعوضها عن أمها. كانت أمها أيضًا لا تستطيع العيش من دونها... وترغب في رؤيتها بجانبها دائمًا كأنها العلاج الذي يُداوي مرضها، وذلك في أشهر مرضها الأخير، وهي طريحة الفراش في وهن شديد... كانت عندما تتأخر عنها لدقائق معدودات في الحجرات الأخرى، كان وجه أمها الشاحب من شدة المرض يستحيل إلى السواد، وتبدأ أنفاسها تتعالى، ويصفر طرف أنفها. كانت أمها تمكث في حزن، وكأنها في طريقها للموت، حتى تأتي ابنتها إليها، فتعقد حاجبيها الرقيقين، وتُدير وجهها النحيف للحائط، وتظل صامتة مدة طويلة ولا ترد على أسئلتها، وتقول بصوتها الضعيف ووجهها نحو الحائط متأوهة خلسة:

-       أنا أحتاج إليك.

في حقيقة الأمر، لقد قالت أمها هذا لها وهي مسلطة عينيها المليئتين بالمحبة في وجهها، وذلك منذ زمن بعيد، قبل أن تكون طريحة الفراش بفترة طويلة، وهي في كامل عافيتها.

كانت تفكر في حب أمها لها، ألم تكن كذلك؟ بلى...

كانت أمها تحبها، ربما خصتها بالحب الذي كان لزوجها، والذي فقدته في ريعان شبابها، ثم لسبب ما تذكرت مقولة أمها، وهي تحتضر متنهدة بحزن غريب، وهي تقول: "لا أريد الموت فقط من أجلك"، ثم أصابتها غصة شديدة... فكرت: "لماذا فقط من أجلها؟"؛ أبسبب أنها تحبها أكثر من أبنائها الآخرين؟ أم بسبب أنها كانت تشبهها؟ ربما كانت تشبهها في فترة شبابها، ألهذا السبب؟

غرق جسدها في عرق بارد، وغاصت في التفكير، وتذكرت أن أمها التي كانت طريحة الفراش منذ عدة أشهر تنهدت، وسلطت عينيها المليئتين بمزيج من حب الحياة والحزن إلى وجهها ورقبتها ويديها، ووضعت نظارتها على عينيها ويداها ترتعشان، ونشرت شعرها نحو الضوء قائلةً:

-       هذا الشعر أيضًا لي...

كانت أمها تحبها أكثر من الجميع بسبب شعرها، وجلدها وأنفها... يبدو أن أمها كانت ترى أن هذه الأشياء الثلاثة دائمًا مزية لها، وكان قلبها لا يُطاوعها في أن تتركها وهي في ريعان الشباب وترحل... بسبب أن غطاء الوسادة قد تبلل من كثرة البكاء طوال الليل، أدارت الوسادة على الجهة الأخرى، وفكرت في أن الأحلام في الأصل واقع. كانت أمها تتركها في الحلم وتمضي... وكانت هي تبقى وحيدة تمامًا وسط أولئك الأشخاص الغرباء الذين لا تعرفهم... كيف يبدو كل شيء دقيقًا إلى هذه الدرجة؟! في واقع الأمر الحال هكذا! ...  فهي الآن تعيش وسط غرباء تمامًا... نعم، فأسرتها عبارة عن هؤلاء الأناس الغرباء، أولاد غرباء، زوج غريب... ثم تخيلت أمام عينيها وجه أمها ثانيةً بكل تفاصيله... كانت أمها كالمعتاد تنصت لها بدقة، كأن كل كلمة تقولها تُغيّر حياتها بالتدريج... تمددت على ظهرها، سالت دموع عينيها على وجهها حتى ملأت أذنيها.

بعد رحيل أمها، لم يكن أحد يُصغي إليها على هذا النحو. كان لا يصبر عليها أحد، ولا يُطيق هذا، كانت هذه هي الحقيقة، فكان ما تقوله لا يغير حياة أحد على الإطلاق.

أجهشت في البكاء ثانيةً، كانت عندما تتذكر أمها، وتبكي على هذا النحو، يخاف زوجها لسبب ما... ولكن لماذا؟

فكرت في أن تعلقها بأمها، وكل هذه الاضطرابات التي تتعرض لها جراء مرضها وفقدانها كالعلاقة بين العشاق أكثر من كونها علاقة بين أم وابنتها... لقد قال زوجها لها هذا ذات مرة عندما كانت تجهش بالبكاء في المكان الذي كانت تجلس فيه كالمعتاد، عقد زوجها حاجبيه، وقال وهو يسحب السيجارة بعنف:

-       هذا ليس موضوع أم وابنتها...

فركت عينيها المحترقتين بسبب البكاء، وقالت: "إذًا فأي شيء هو؟"

أمها من كانت بالنسبة لها، أو بمعنى أصح، هي كانت من بالنسبة لأمها؟

تذكرت وقت احتضار أمها وهي في النزع الأخير قولها فجأة وهي تنظر إليها بطرف عينيها: "سوف تتألمين من أجلي فيما بعد"... قالت أمها هذا، وصمتت مدة، ثم تنهدت بصعوبة، وهددتها والغضب بادٍ من عينيها قائلة:

-       سوف تتألمين... سوف تتألمين ألمًا شديدًا، ثم أغمضت عينيها.

ضاق صدرها، فنهضت وجلست في مكانها. جففت الدموع التي ملأت أذنيها بطرف اللحاف، ثم نهضت على قدميها بهدوء، ولبست الشبشب حتى لا تستيقظ ابنتها، وذهبت إلى الحجرة الأخرى، وسلطت عينيها على زوجها النائم على الأريكة. دخلت وجلست بجواره، ظلت فترة على هذا النحو، محدقة إلى الظلام... ناظرة نحو رقبة زوجها السمينة وإلى كتفيه المفتولين، وبكت في هدوء.

كانت ملامح الجدية تعلو وجه زوجها في نومه؛ فقد عقد حاجبيه، وشبّك يديه فوق بطنه كأنه في مقابلة رسمية، وغاص في التفكير وهو يستمع مكرهًا إلى مشكلة شخص ما.

مررت يدها بهدوء على جبين زوجها حتى يستيقظ. كانت تود أن تُحدثه عن لقائها مع أمها.

فتح زوجها عينيه ورآها، وقال لها دون اندهاش:

-       لماذا لا تنامين؟

عندما قال زوجها هذا، لم تستطع أن تتمالك نفسها، فأجهشت بالبكاء، وأخفت وجهها بيديها.

-       ماذا حدث؟

انتصب زوجها، وجلس مكانه، واحتضنها وضمها لصدره:

-       أرأيتها ثانية؟

هزت رأسها، وقالت "نعم". تنهد زوجها، وضم رأسها لصدره، ومرَّر يده على شعرها، وربما شرد ذهنه إلى مكان ما بعيد.

-       رأيتُ وجهها هذه المرة... رأيتُ وجهها بكل تفاصيله... رأيتها بوضوحٍ كاملٍ كأننا كنا معًا منذ خمس دقائق فقط.

كان زوجها يلتزم الصمت، توقف عن تحريك يده على شعرها. كان لا يحرك ساكنًا، ويحدق في السقف.

صمتت باكية، وكانت تشعر من صدر زوجها الدافئ، ومن نَفَسِه الهادئ أنه يُشفق عليها. كان يشفق عليها لأنها فقدت أباها وهي في سن الخامسة عشرة، ثم بعد ذلك بقليل فقدت أمها. وكذلك يشفق عليها لأنها ضعيفة، وقلبها يؤلمها باستمرار، ولا تستمتع بشيء مطلقًا، ولا تفرح، ولا تبتهج، وكذلك يشفق عليها لأنها عندما تنظر لأطفالها، فإن عينيها تؤلمانها.

كان زوجها يقول تقريبًا كل هذا في كل مرة عندما ترى أمها في المنام وتبدأ في البكاء. أما بشأن أمها فكان يصمت كأنه لا يعرف أمها، أو بمعنى آخر كان يكره أمها؟ لا، لا يكرها، ولكن لسبب ما، يلتزم الحيطة في التطرق لذلك الموضوع، أو مجرد الاقتراب منه... كانت تشعر تمامًا بهذا الأمر، فبمجرد الحديث عن أمها بعد موتها، تجحظ عيناه، ويتغير لون وجهه، وكأنه بدأ الخوف من أمها بعد موتها... فكرت ودموع عينيها تسيل على خديها وتُبلل رداءها: "نعم، زوجي يخاف من روح أمي"، وربما السبب في هذا الخوف هو أن روح أمها لم تدعهم ينعمون بالراحة منذ موتها؛ فقد كانت أمها تأتي لها من حين إلى آخر في منامها؛ أحيانًا تكون مغتمة، وأحيانًا أخرى تكون باكية، وفي بعض الأوقات تدير وجهها نحو الحائط، وتصمت في حالة عجيبة من التوتر الذي يُثير الذعر طوال الحلم.

ربما بدأت أمها تأتي لزوجها هو الآخر في المنام. علمت هذا بعد أن اعتاد في الأشهر الأخيرة أن يستيقظ من النوم بعد منتصف الليل، ويسير في ظلام المنزل بهدوء كظل لص، ثم يضيء المطبخ، ويعبث بغضب في كل الأشياء، أو تعرف من خلال اضطرابه في صباح اليوم التالي. أما عند سؤاله عن سر "مغامرته الليلية"، كان لا يرد كالذي قُبض عليه متلبسًا بالجريمة، ويظل ينظر إلى السقف صامتًا بوجه مُغتم إلى أن يتوقف عن الحركة والاضطراب عند طلوع النهار.

أحنى زوجها رأسه نحوها، وقبَّلها من جبينها، وملَّس على شعرها مرة أخرى بحركات هادئة، وظلا على هذا النحو فترة مستلقيين بهدوء، ورأسها على صدر زوجها.

-       أتعرفين فيمَ أفكر؟ ربما نشتري مصيفًا؟

-       ماذا نعمل بالمصيف؟

-       نُربي دجاجات، ونزرع حديقة صغيرة، وتزرعين وتحصدين كما تشائين، وتنشغلين بهذا؛ فالجو النقي يُهدئ الأعصاب.

نهضت، وجلست، وفركت عينيها اللتين انتفختا من البكاء، ونظرت لزوجها.

كانت ملامح الحزن تسيطر على وجه زوجها، ربما كان يغلبه النوم.

قالت:

-       ما علاقة الدجاج بالأعصاب؟

قالت ذلك، وشعرت أنها فجأة تحدثت مثل أمها تمامًا، وبصوت أمها؛ لذلك اختنقت مرة أخرى بالدموع.

اتسعت عينا زوجها، ربما لأنه سمع صوت أمها.

يُقال إن روح الأم بعد موتها تنتقل لابنتها، وكأن روح أمها انتقلت إليها. في الواقع، كانت تشعر بذلك في الآونة الأخيرة. كانت تشعر على وجه الدقة أنها ترى كل شيء بشكل مختلف، وتفكر بأسلوب مختلف، كأنها تُعيد من جديد التعرف على ما اختبرته منذ سنوات، فتكره ما كانت تحبه، وتحب ما كانت تكرهه...

-       لا أريد مصيفًا. بصفة عامة لا أريد شيئًا على الإطلاق.

قالت هذا، ونهضت على قدميها، وذهبت إلى حجرتها حافية القدمين وهي تشعر برجفة بسبب برودة الأرض، رمقت زوجها بنظرة وهي ذاهبة دون أن تلتفت خلفها.

كان وجه زوجها كأنه هو الذي أمات أمها.

*    *     *

وصلت إلى مكان العمل قبل الموعد المعتاد، رأتها الخادمة، وابتسمت ابتسامة تملق، وسارت نحوها، يبدو أنه كان وقت دفع الأجرة، قالت:

-       مرحبًا، فداكَ نفسي، بشراي فقد أتيت مبكرة.

ثم انحنت، وكأنها استعدت لمسح حذائها.

-       لا يوجد سبب لقدومي مبكرة.

قالت هذا، ووضعت في جيب الخادمة ورقة من فئة الخمس منات (عملة أذربيجان) كانت في غياهب جيبها، وعندما همَّت بالدخول إلى مكتبها، طرأ على ذهنها فجأة أنها ربما تختلي بهذه المرأة التي يبدو عليها علامات الحنكة، وتحكي لها الحلم الذي رأته ليلة أمس. ولكن وقع نظرها على المعطف الأبيض المتسخ الذي ترتديه الخادمة، وإلى الخرقة المبتلة والمليئة بالقاذورات التي تمسك بها في يدها، فأقلعت عن فكرتها.

كان مكتبها مليئًا بالأوراق، بدأت أمس هنا في هذه الحجرة في كتابة شيء ما بشغف وعزيمة صلبة، كأنها اليوم يجب أن تواصل ما بدأته. كتبت خطة الأعمال التي سوف تقوم بها اليوم في المُفكرة التي كانت موجودة في منتصف المنضدة، وتنظر إليها، كُتبت العديد من الأسماء وأرقام الهواتف، ربما كان يجب عليها الاتصال برقم من هذه الأرقام... ولكن أي منهم؟

دخلت وجلست مكانها، قلَّبت الأوراق الموجودة فوق المنضدة، وقرأت ما كتبته بالأمس. كل شيء كُتب كأنه دُوَّنَ قبل خمسين عامًا.

فكرت وما علاقة كل هذا المكتوب بها؟

استاءت حالتها فجأة، وكأن درجة حرارتها ارتفعت. عندما تبكي، كانت تمرض على هذا النحو. فكرت ربما تنهض وتعود إلى المنزل، ثم تذكرت أن منزلها مثل العمل، وأنها لا تستطيع أن تنعم بالراحة فيه مثل العمل...  بعد وفاة أمها، كانت تشعر أنها وحيدة، ولا أهمية لها كما الحال هنا في العمل.

لفَّت شعرها، ثم نظرت لنفسها في مرآة صغيرة بيدها.

كانت عيناها وشعرها المتناثر على هذا النحو يجعلها تبدو كأحد الملحنين المبدعين الذين عاشوا في القرون الوسطى.

فكرت ماذا تعمل الآن، وكيف تعيش، ولمن، ولأي شيء تميل؟

كانت بعد وفاة أمها تشعر أن أطفالها غرباء عنها، وكذلك زوجها، وأخوتها. ربما كانت أمها تعرف هذا، فهي تقول لها ذلك دائمًا وهي تبتسم في وجهها ابتسامة ودودة:

-       لا تعطي مكان أمك لأحد يا بُنيتي، لم يقولوا هباء "الأم صديق بلا رشوة".

نعم، بالرغم من أن أمها فارقت الحياة، فإنها لم تتخلَّ عنها بعد... والآن، كانت تأتيها في منامها من وقتٍ إلى آخر... أحيانًا كانت تُلوح لها من قمة جبل، وأحيانًا أخرى من ظلام الغابة، أحيانًا ثالثة من أركان البيت المظلمة، وتنادي عليها... وكانت تذهب ولا تستطيع اللحاق بها... كانت أحيانًا تغلق الأبواب، وأحيانًا أخرى تنزل إلى النهر من المكان الذي سارت منه أمها، وتصارع الغرق في الماء، وكذلك أحيانًا تتيبس قدماها أثناء سيرها، فتمنعها من أن تخطو خطوة واحدة، فلا تتمكن من الاقتراب من أمها.

نظرت إلى يديها التي شبكتهما فوق المكتب.

أصيبت يداها بالعجز... والآن بدأت يداها وأصابعها تشبه أصابع أمها... كان الجميع يقول هذا، كانوا يقولون إن صوتها أيضًا أصبح يشبه صوت أمها.

تأوهت ببطء، وقالت:

-       آه ه. ه. ه. ه. ه.

ثم فكرت ربما تذهب إلى المقابر، وتجلس هناك حتى غروب الشمس وحلول الليل، ولتبكِ، ناظرة لوجه أمها المحفور فوق شاهد القبر... ولكن تذكرت أنها لا تستطيع أن تبكي مطلقًا في المقابر. وجه أمها المبتسم المحفور فوق شاهد القبر الرخامي، وقبرها الوحيد، وصوت صفير الرياح الحزينة التي تعوي وسط القبور؛ كل هذا لا يُحرّك بداخلها شيئًا... وها هي عندما تذهب للمقابر مع الأهل والأقارب أيام الأعياد وفي الذكرى السنوية لأمها، تخجل من الناس بسبب أنها لا تدمع ولو دمعة واحدة.

كان الأهل والأقارب يتعلقون بشاهد قبر أمها، ويجهشون بالبكاء، ويحتضنون صورة أمها ويقبلونها، كانوا يرمقون وجهها خلسة، ويكرهونها بسبب أنها لا تقوم بواجبها كابنة تجاه أمها.

فكرت ربما أنها لا تستطيع البكاء في المقابر؛ لأن روح أمها غير موجودة هناك. في الواقع كانت روح أمها تطوف في هذه الأماكن؛ أي أحيانًا في حجرة العمل الصغيرة والضيقة هذه، وفي منزلها الذي عاشت فيه أكثر سنوات عمرها، وأحيانًا أخرى ترافقها في أثناء سيرها بالشارع... كانت تحس بها بكل جوارحها... كان يسري بداخلها سواء وهي تمشي أو تجلس مكانها شيء ما بارد وخفيف كالثلج يشبه الندى، وكان هذا الشيء أيضًا يحل داخل عينيها وروحها من خلال غمامة غامضة تشبه الضباب... أو كانت تشعر فجأة أن شخصًا ما يترنم بداخلها، وبالرغم من أنها حاولت أن تميز تلك الترانيم التي تحوم في صدرها وفي حلقها، فإنها لا تستطيع... كان هذا يحدث بشكل أساسي في الليل بعدما ينسل كل واحد بالمنزل إلى حجرته، ويُطفئ نور حجرته، كانت لا تستطيع أن تُنصت بهدوء إلى هذه الترانيم سواء بكلمات أو موسيقى فقط، والتي كانت تتغنى بها بصوت حزين يشبه همس أمها التي كانت تملأ جوارحها على هيئة ضباب أو ظل... كانت كلما تترنم أمها، تجهش هي بالبكاء.

لم تكن هي الباكية، بل أمها، كانت تصب بداخلها آلامها وهي تبكي... كانت أمها تبكي عليها بعيونها هي... على مستقبلها المشؤوم، وعلى جمالها الذي هاجمه المرض وقضى عليه.

كانت هي نفسها ربما السبب في أن تجعل روحها تتعذب وتشتاق لأمها.

نعم، كانت أمها... لا تستطيع أن تعيش بداخلها... كانت ترغب في النمو من جديد والعيش في جسدها، وتتخذ ملامح وجهها، أو كانت تريد أن تكون امرأة شابة في شكلها وجسدها!.

رن الجرس.

كان شعر المدير الذي لفه الشيب متناثرًا على جبهته.

سلَّط عينيه عليها ويداه في جيبيه ويلف المقعد الدوار يُمنةً ويسرةً.

-       كيف حالكم؟

-       لا بأس.

-       يبدو عليك شيء ما.

بسبب أن وجه المدير كان حزينًا، كلما نظرت إليه، تتملكها الرغبة في البكاء، فاغرورقت عيناها ثانيةً، بينما أرادت أن تفتح فمها وتتحدث، سبقها المدير:

-       سوف يأتي اليوم مؤلفان موهوبان، لو لدينا شيء في خطة العمل يناسبهما، أبرمي معهما اتفاقًا، ليعملا معنا.

عندما كان المدير يتحدث، كانت دموع عينيها تتدحرج، وتسيل على خديها.

كادت عينا المدير تخرج من محجريهما:

-       ماذا حدث لكِ؟

قالت مدلية رأسها لأسفل:

-       لا شيء.

قال المدير بخيبة أمل:

-       كأنك معتلة المزاج.

ثم أردف دون انتظار رد:

-       أنا أيضًا، أشعر في الآونة الأخيرة أنني في حالة سيئة، كأن شيئًا ما انتشر في الجو، الله أعلم، أطلقوا شيئًا ما في الجو.

*    *    *

عندما وصلت إلى المنزل، حلَّ المساء، فكرت وهي تسير بسرعة وتتعجل في خطواتها: "الله أعلم، ينتظرني أطفالي في المنزل الآن وهم يتلوون من الجوع".

وبمجرد أن فتحت الباب ودخلت قال الطفلان في نفسٍ واحد: "أووووو"، وانقضَّا عليها صارخين، وتعلق كل منهما بذراع، وأخذا يتحدثان بلهفة وهما يُقاطعان كلام بعضهما بعضًا.

وعندما ابتعدت عنهما بصعوبة ودخلت إلى المطبخ، تذكرت أنه لا يوجد لديها طعام جاهز، وتذكرت أيضًا اللحم البقري الذي اشتراه زوجها من السوق أمس، والتي قطعت الجزء شديد الحُمرة من اللحم، ووضعته في الرف العلوي للثلاجة كي تفرمه في ماكينة فرم اللحم. والآن كان يجب عليها بعد أن تخلع ملابسها وتغسل يديها ووجهها أن تُخرج تلك اللحمة الحمراء من الثلاجة، وتضعها أمامها على خشبة تقطيع اللحم، وتُقطعها إلى شرائح، فيسيل الدم من اللحم مسببًا لها الشعور بالغثيان.

غسلت يديها، وأعدت فطيرًا للأطفال من صدور الدجاج المتبقي من طعام أمس وشرائح الطماطم، ثم أخرجت اللحم من الثلاجة، ووضعته باشمئزاز فوق المنضدة.

كانت ابنتها تأكل الفطيرة ناظرة للجدران وأمامها كراسة مفتوحة، وفي يدها قلم، وتحني ظهرها.

جاءت وربتت على ظهرها:

-       اعدلي ظهرك! واكتبي!

تغير وجه الفتاة:

-       ماذا أكتب؟

-       التاريخ، ورقم الواجب...

بلعت الفتاة القطعة الأخيرة من الفطيرة، وكتبت بأحرف متعرجة تاريخ الشهر، وبعده رقم الواجب، واستدارت، وسلطت عينيها الكسولتين إلى وجهها.

-       علامَ تنظرين؟

فركت ابنتها عينيها، ونظرت في الكراسة، وكتبت بحروف رديئة وهي تتهجى بعض الكلمات التي قرأتها.

أرادت أن تضرب الطفلة، ولكنها تمالكت نفسها بصعوبة، وقالت متنهدة:

-       اكتبي بشكل جيد!!

فزعت الطفلة، وتوقفت عن الكتابة، ثم عاودت الكتابة، وبالرغم من أنها عاودت الكتابة هذه المرة بدقة وهدوء، إلا أنها كتبت مرة أخرى بأحرف متعرجة.

لم تتمالك نفسها هذه المرة، فقرصت ذراع الطفلة. وعندما قرصتها، انفصل ظفر إصبعها الوسطى وانكسر، وسال الدم من تحت الظفر.

دفست يدها تحت إبطها، وذهبت للمطبخ، وهناك قصت ظفرها المكسور وهي تلعن نفسها والدنيا كلها، وغسلته وربطته، ثم وضعت اللحم الذي قطعته شرائح في الطاسة، ووضعته فوق النار، وفكرت وهي تقلبه بالملعقة: "كل شيء سيئ: زوجها، وأطفالها، وعملها، والناس المحيطون بها، ومنزلها، وكذلك هذا الطعام الذي تزول حُمرته رويدًا رويدًا جراء حرارة النار.

كان زوجها في الحجرة الأخرى منزويًا في أحد الأركان يقرأ الجريدة دون أن يرفع رأسه، ويشرب السيجارة وهو يقرأ، ويتلوى من الجو. ومن حين إلى آخر، لا يستطيع أن يتحمل رائحة الطعام، فيدخل المطبخ، وبالرغم من أنه كان يرمق في الطاسة مدى نضوج اللحم، ويقلب بيده الأدراج، فاللحم لم ينضج بعد. ما زال الكثير حتى ينضج الطعام، كلما ظل في الزيت، يتحول إلى ما يشبه قطعة الجلد السميكة.

شعرت أن رأسها هي نفسها تدور من الجوع. أخذت إحدى قطع اللحم التي تحول لونها للون الرمادي، ونفختها، وقطعتها بأسنانها، تكوم اللحم تحت أسنانها مثل الكاوتش، لم يتحمل زوجها الجوع، فجاء ووقف خلفها، وكان ينظر إلى قطع اللحم التي تقلبها بالملعقة.

نفد صبري، فاستدارت للخلف، وقالت:

-       ماذا؟

-       تغير وجه زوجها:

-       لا شيء.

-       كيف لا شيء؟ قل إنني لا أستطيع التحمل، وأموت من الجوع.

تنهد زوجها، وفتح الثلاجة، وأخرج منها لانشون، وطماطم، وجبنًا، ووضعها على المنضدة، وبدأ يأكل على مهل.

اشمأزت، وضاقت ذرعًا.

لا تصدر صريرًا بأسنانك.

توقف زوجها عن المضغ، ونظر لها باشمئزاز، ثم ألقى بالسكينة والشوكة الموجودة في يده على المنضدة، ونهض، وذهب إلى الحجرة الأخرى، ورطم الباب.

اغرورقت عيناها مرة أخرى بالدموع، تكره كل شيء، لا تريد العيش. فليرحمها الله، يرسل لها الموت.

فكرت وهي تقلب اللحم: "ربما في حقيقة الأمر الذي لا يريد العيش هي أمها، وأمها لا تستطيع العيش؛ لأنها تشعر بعدم الراحة وهي في جسدها"، ثم اختلطت الأمور في ذهنها بسبب هذا التفكير، واغتمت بسبب الجوع أو بسبب العصبية... فركت جبينها، وفكرت أنها أخيرًا فهمت كل شيء: التي لا تستطيع العيش، والتي تُعذبها، والتي تحب أمها هي أمها نفسها.

غطت الطاسة، وجلست جانبًا، وتذكرت الليالي الماضية؛ أي الأطعمة المليئة بالبهارات التي هي ألذُّ من بعضها التي طهتها أمها، ووضعتها أمامها عند عودتها من العمل. رتبت أمها الأطعمة على المائدة، وجلست مواجهة لها، وظلت تسلط عينيها المليئتين بالشغف في وجهها المكفهر من الجوع، وفي مضغها الطعام بنهم شديد، ثم تبسمت أيضًا قائلة:

-       امضغي الطعام جيدًا، لا تتعجلي..

ثم أحضرت أمها الشاي. شبعت هي الأخرى من الطعام، وأعطت تقريرًا لأمها عن كل ما حدث خلال اليوم، لم تترك أمرًا وهي تحتسي الشاي مع المربى()، تحدثت معها عن كل شيء بالتفصيل. كلما تحدثت، أثَّر كلامها على أمها، وركزت في حدقتي عينيها، استمعت أمها لكل كلامها كلمة كلمة، وفطنته، فعندما يكون الكلام مُرًّا، تتجاوز أمها عنه، وعندما يكون حلوًا تُنصت له باهتمام.

وبسبب أنها وضعت رأسها بين يديها، واستندت إلى المنضدة، سال دمع عينيها دمعة تلو الدمعة فوق المنضدة.

-       أُماه! ...

كانت ابنتها واقفة وفي يدها كراسة عند باب المطبخ، مسلطة عينيها الفزعتين إلى وجهها.

فقالت الطفلة على استحياء:

-       كتبتُ.

-       أحضري الكراسة، لأنظر.

مسحت دموع عينيها بذراعها، وقرأت الواجب المدرسي، فلم تفهم شيئًا، أغلقت الكراسة، وأعطتها لابنتها.

-       حسنًا.

*    *    *

نهضت منتصف الليل على صوت زوجها. كان صوت زوجها في الحجرة الأخرى يرتعد ويتوسل لأحد ما... ففهمت ما يحدث... رجف قلبها. كانت أمها ثانية... الآن أصبحت تأتي لزوجها في المنام أيضًا... كانت أمها وهي على قيد الحياة لا تحب زوجها. والآن الله أعلم، كيف وفي أي زي تأتي لزوجها في المنام؟ ربما كانت تضعه في جوال ضخم لونه أسود وتربط فمه بإحكام... أو تغطسه في مياه سوداء مُعكرة، وتخنقه حتى تنقطع أنفاسه.

نهضت على قدميها، وذهبت إلى الحجرة الأخرى. وضعت قدميها بهدوء على الأرض، وسارت، ورفعت الغطاء عن زوجها، وانحنت، ونظرت إلى وجهه عن قرب.

كان زوجها يتململ داخل عرقه كالمصاب بالحمى... كأنه كان يصارع الموت، ليس هنا أي على فراشه، بل وسط الشبكة التي سقط منها بمعجزة، ومهما كان يحاول ويقاوم، كان لا يستطيع أن يخرج منها، ثم كأنه مزق الشبكة، وأفلت منها، وطُرح في مكان ما وقد خارت قواه، وبكى بكاءً متقطعًا، وسكت... كأنه غاص في سُباتٍ عميق.

ربما أمها قتلت زوجها، واستراحت، هكذا فكرت، وسارت بقدميها البيضاء في الماء، ومضت إلى حال سبيلها.

وطأة قدميها الأرض بهدوء، وعادت إلى غرفتها، ودخلت مخدعها، ووضعت اللحاف على رأسها. كانت تشعر بحكة في منبت شعرها، ورقبتها. كانت عندما تتعصب أو تخاف، تشعر بهذه الحكة في جسمها دائمًا.

استدارت على جنبها، ونظرت إلى ابنتها التي تنام بجوارها.

التوت شفتا ابنتها، ربما كانت تستعد للبكاء. ضاق صدرها... فكرت في أن الجميع في هذا المنزل يبكي بعد رحيل أمها. يؤثر عدم وجود أمها على المنزل كله.

حبست ابنتها بكاءها فترة على شفتيها الصغيرتين الملتويتين، ثم أطلقته على وجهها كله كالجورب الذي انسل خيطه فجأة، وبكت وهي نائمة... ضمت الطفلة في حضنها، وملَّست على شعرها، وقبلتها كثيرًا.

ثم غلبها النوم هي الأخرى بعد فترة، ثم رأت تكملة حلم الأمس. والغريب في الأمر أنها كانت تعلم هذه المرة في الحلم أنها في المنام... كانت تلك السيارة تنطلق، وتبتعد عن هناك، وتأخذ وجهتها وتمضي... وكانت أكوام الثلج تنهمر خلفها أيضًا... وكانت السيارة تتضاءل وسط الثلج.

استيقظت من النوم وقد ضاق نفسها... جلس زوجها بجوارها... وضع يده على جبينها، وكان ينظر إليها بعينيه الجاحظتين من الخوف أو بسبب الاضطراب. رأى أنها استيقظتْ، فقال:

-       لقد استيقظتُ على صوتك، كأنهم كانوا يغرسون سيخًا محميًّا في جلدك.

-       انتصبت وجلست مكانها، وكانت تشعر بالغثيان.

وضعت يدها فوق معدتها، وقالت:

-       ربما أصبحتُ حاملاً.

قالت ذلك، ونظرت لزوجها.

-       كان الجو مظلمًا؛ لذلك لم تفهم هل ضحكت عينا زوجها، أم حزنت.

ظل الاثنان ينظران لبعضهما فترة وهما في حالة من الوهن.

كان النهار على وشك الطلوع.

 

 

 



شاعر ومسرحي وروائي هندي ولد بمدينة "كالكوتا" بالهند عام 1861م، نال جائزة نوبل في الآداب عام 1913م، وتوفي عام 1941م. (المترجم)

([2])مدينة "منسك" هي عاصمة روسيا البيضاء (بيلاروسيا) حاليًا، وكانت ضمن الاتحاد السوفيتي آنذاك. (المترجم).

([3])طبقًا للعادات والتقاليد في أذربيجان، فإن من يذهب للخدمة العسكرية يتم الاحتفال به وتوديعه بالمزامير والاحتفالات. (المترجم).

([4])الحرب الوطنية العظمى: هو مصطلح يطلق لوصف الفترة بين (1941 – 1945) على الجبهات المختلفة للحملة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية، والتي دارت معاركها بين الاتحاد السوفيتي من جهة وألمانيا وحلفائها من جهة أخرى، وقد شارك فيها شعوب الاتحاد السوفيتي السابق ضمن الجيش الروسي، ومن بينهم أذربيجان. (المترجم)

([5])يقصد علم جمهورية أذربيجان الذي يتكون من ثلاثة ألوان هي: الأخضر والأحمر والأزرق. (المترجم)

([6])طبقًا للعادات والتقاليد في أذربيجان، يشربون الشاي مع المربى بدلاً من السكر، وأحيانًا يشربون الشاي مع المكسرات. (المترجم)