قصة "مدد"

كان يسير مُحدِّقًا في حذائه المغبَّر، وإلى رجليِّ سرواله باهت اللون ومهلهل الأطراف... كلما مشي كان يُشفق على قدميه. انظر منذ كم عام وهي تحمله دون منٍّ أو أذًى أينما يريد، تذهبان به، وتوصلانه.

كان يطوف حول المحلات، ويتجول داخلها منذ طلوع الشمس. في الحقيقة، لم يكن هناك شيء يجب أن يشتريه، ولكنه يتجول ويطوف، إنه ينظر على الخواتم والحلقان في محل المجوهرات، ويقارن أسعارها، ثم يخرج من هناك، ويذهب إلى محل لعب الأطفال، وهناك كان يتفقد السيارات، والدراجات الصغيرة، ويُضايق الباعة بأسئلته المستفزة، ويُزعجهم، ويأخذ لعب المسدسات والبيانو الصغيرة، يتفقدها واحدًا بعد الآخر، ويعزف على البيانو ويُجرب كل اللعب. وفي وقت استراحة المحلات يدخل المطعم الصغير القريب، ويشتري من هناك كل ما يشتهيه، ويأكله، ثم يذهب إلى السينما، ويشتري تذكرة للفيلم الذي يرغب في مشاهدته في الصباح، ثم يخرج من السينما، ويشتري تذكرة لفيلم آخر، ويُعاود التجول في المحلات، ويعود إلى المنزل بعد غروب الشمس.

كانت أيام عطلة "مدد" تنقضي على هذا النحو، ولم يتغير شيء سوى الأفلام فقط. وعندما لا يوجد هناك فيلم جديد، يتظاهر بأنه نسي هذا الفيلم ويُعاود مشاهدته مرة أخرى كأنه يشاهده للمرة الأولى. وعندما لا يستطيع ذلك، كان يجلس في الصفوف الخلفية في صالة العرض المظلمة، ويراقب من هناك الذين يتبادلون الأحضان والقُبُلات أكثر من مشاهدته للفيلم.

وخلاصة القول، كان "مدد" لا يحتاج إلى أحد مطلقًا كي يقضي يوم عطلته بشكل شيق، لأي سبب كان يجب عليه أن يذهب مع أحد إلى السينما!! ويجلس معه جنبًا إلى جنب، ويشاهدا معًا فيلمًا؟ ... أيفقد الفيلم مذاقه عندما يشاهده وحده؟ ... أم لماذا كان يجب عليه أن يذهب إلى المطعم مع شخص ما، ويجلس معه وجهًا لوجه، ويأكل معه وهو ينظر إلى فمه ومنخاره؟ ... ما هذه الوحشية، بصفة عامة؟ ...

كان "مدد" يلتزم في المنزل بمبدئه هذا حيث لا يشعر مطلقًا في الأوقات التي يقضيها بالمنزل برغبته أو ميله للجلوس وجهًا لوجه، أو جنبًا لجنب مع أي شخص، أو التحدث معه في أي شيء، أو حتى الأكل معه. أما موضوع الرد على الهاتف، فكان أكثر الأمور مأساوية في المنزل بالنسبة لـ"مدد"، فكان يتمالك نفسه بصعوبة من أن يُلقي بسماعة الهاتف على الأرض ليتخلص من الردود المعتادة "كيف حالك؟"، و"كيف حال الأسرة؟"، و "ما الجديد؟"، تلك الكلمات التي يجب أن يقولها في كل اتصال هاتفي. وأحيانًا لا يتحمل، فيضطر إلى أن يُلقي سماعة الهاتف ويترك الشخص يتحدث في الناحية الأخر ى من الهاتف ... كان يضجر من قوله "نعم" على سيل الأسئلة التافهة، ويقطع المكالمة، فيضطر أن يسمع توبيخ من في المنزل بعد ذلك بسبب تصرفه الفظ مع المتصلين.

بصفة عامة، كان "مدد" يدرك أنه لا يفهم أشياء كثيرة عن فن التعامل مع الناس، وأهم شيء من تلك الأشياء التي لا يستطيع أن يفهمها هو الرغبة في حديث طويل بين أشخاص لا يريدون أن يُنهوا حديثهم على الإطلاق. وما كان يسبب لديه هذا الذهول والغضب الدائم هو اتصال الناس وحديثهم مع بعضهم دون توقف لعدة ساعات، بل عدم اكتفائهم بهذا، فيذهبون إلى بيوت بعض أصحابهم، ويتحدثون بشغف في أي موضوع حتى بعد منتصف الليل.

وضع يده على زر الجرس وانتظر. وفي النهاية فتح أخوه الصغير الباب، وانصرف إلى المطبخ بخطى غاضبة معرضًا عنه. دخل وخلع حذاءه، وفكر ربما شغل أخاه عن عمل عاجل كان يقوم به، ثم فكر كم يكون للإنسان من أعمال عاجلة؟!...

كان أخوه وزوجته يُعدان شيئًا ما في المطبخ، كانا يُضبطان شيئًا ما ويفكانه، ويعاودان تركيب هذا الشيء مرة أخرى.

فكر في نفسه "كل هذا من الفراغ"، ثم دخل حجرته دون أن يتكلم، جلس هناك على مقعده، وضغط على زر التلفاز، وبدأ يتفقد الصحف الجديدة التي اشتراها من كشك الصحف منذ قليل.

* * *

عند حلول المساء، لم يكن في المطبخ مكان للتحرك، وقفت أمه ويدها في خصرها أمام موقد الغاز، تضغط بعصا الغسيل على الملابس البيضاء التي يتصاعد منها البخار الموجودة في إناء كبير فوق الموقد. فتح أخوه المكواة الكهربائية، وفك أجزاءها فوق الطاولة، وكان يفعل شيئًا ما بسكين صغيرة داخل المكواة. كانت زوجة أخيه تحكي قصة لرضيعها مُصدرةً أصواتًا مخيفة، وفي يدها إناء مليء بالطعام.

في الحجرة المجاورة، كانت جدته تصلي متجهة بوجهها نحو الحائط.

رأى "مدد" كل هذا بشكل سريع أثناء مروره من الطُرقة إلى حجرته، فتح التلفاز، استرخى على المقعد الموجود أمام التلفاز، وقلّب الصحف ثانية هنا وهناك، وتفقدها مدققًا هذه المرة، وفكر في أمر غريب، كان في بداية الأمر يستنشق الصحف فقط، ويتلذذ من رائحة الطباعة وأوراق الصحف. أما في الآونة الأخيرة فأصبح يشمُّ كلَّ شيء: معطفه، والمائدة، وكذلك يديه، وشاشة التلفاز... لقد تحول الشم في الآونة الأخيرة إلى مطلب حياتي يومي بالنسبة له مثل الطعام والنوم والتنفس. والغريب في الأمر هو أن الحالة المزاجية له تتغير بتغير الرائحة؛ فهو يشعر بعدم الارتياح من رائحة المائدة، والحزن من رائحة الملعقة الحديدية، والكسل من رائحة معطفه.

فكر أنه ربما رائحة أي شيء تحمل معلومات حول ذلك الشيء، أدار أنفه في جميع أركان الحجرة، واستنشق الهواء... نعم، تم التنظيف اليوم في حجرته، يأتي من الجو رائحة معطر الجو ورائحة الأرضية المجففة حديثًا. فكر ناظرًا إلى صورته المنعكسة على شاشة التلفاز في أن فتحتي أنفه قد اتسعتا بسبب شمه لكل شيء. ليس بسبب معرفة رائحة الصحف، والمائدة، والجوارب فحسب، بل رائحة الناس أيضًا. على سبيل المثال، انظر منذ عدة سنوات وهو يعرف بدقة أن رائحة أمه يمكن أن يقال إنها مطابقة لرائحة جدته تمامًا، أو أنه يتضايق لسبب ما من رائحة أخيه أو ما شابه ذلك. الغريب في الأمر أنه لا يعرف رائحته هو نفسه، يفكر دائمًا بهذا الشأن عندما يركب الترام، وكذلك في المساء عندما يخلع ملابسه وينام، وأحيانًا في الصباح عندما يدخل الحمَّام، ويقف هناك أمام المرآة، ويغسل أسنانه محدقًا في وجهه. يفكر... ربما ليس له رائحة على الإطلاق!!

كانوا يعرضون في التلفاز حياة مجموعة من الحشرات خضراء اللون...  الحشرات تتسلق فوق بعضها بعضًا، وكأنها تسعى إلى شيء ما. خلع جواربه، وألقى بها في ركن على الأرض، كانت قدماه رطبة كاللاصق بسبب اللف والتجول طوال اليوم. فكر في أنه يجب عليه الاستحمام، عندما يحين موعد استحمامه، كاد أن يُصاب بالجنون؛ لأنه قبل كل شيء، يجب عليه أن ينهض على قدميه، ويُعد لنفسه الملابس النظيفة، ثم يُدفئ الحمَّام، ويخلع ملابسه، ويدخل في حوض الاستحمام البارد... ثم الصابون، والليف، والأمشاط... إلخ.

وكذلك عندما يتذكر موضوع الزواج، يكاد قلبه يتوقف، كما كانت تقول له جدته، إذا لم يتزوج، فلن يجد من يرعاه. خصوصًا عندما يكبر في السن، سوف تموت جدته وترحل، وكذلك عاجلاً أو آجلاً سوف تكبر أمه، وتطعن في السن هي الأخرى، وينحني خصرها، وترتعش مفاصلها، حينئذ من سيُعِدُّ له طعامه، ومن سيشتري له خبزه؟ هو نفسه سوف يكبر في السن يومًا من الأيام، وتخر قواه، ولن يستطيع بعد ذلك أن يطوف ويتجول في الشوارع كما هو الحال الآن، ولن تستطيع عيناه أن تميز ما يُعرض في التلفاز، ولن يستطيع تمييز الحروف بالصحف، ولن تستطيع أذناه أيضًا سماع أي شيء سوى الرعد...

تنهد وهمهم بضجر. من الواجب عليه أن يتزوج، كبرت ابنة أخيه الصغير، وذهبت إلى المدرسة بالفعل. أما هو فكان يخاف؛ لأنه كان يرى مصير أخيه المتزوج الذي تسرّع في الزواج وأصابته النوائب، وكذلك البحث والعثور على الفتاة التي سيتزوجها أمر ليس بالهين في حد ذاته؛ لذلك ينبغي عليه أن يتعرف على خمس أو ست فتيات على الأقل، ويخرج للنزهة مع كل واحدة منهن مرة على الأقل، ويذهب مرة أو اثنتين إلى المطعم أو السينما أو المسرح، و يجب عليه أيضًا أن يُراقب جلوسها ووقفاتها، حتى يكون على علم بطباعها؛ فقط بعد هذه العملية المتعبة والشاقة، عليه أن يُقرر بمن يتزوج، وسيبقى وجهًا لوجه مع تلك "التي أعجبته واختارها" حتى نهاية عمره مثل توأم الحيوانات، يجب أن يناما معًا، ويستيقظا معًا، ويأكلا معًا، ويشربا معًا، ويكبرا معًا، وأن يموتا أيضًا معًا، كما قالت جدته: هذا هو قانون الحياة، وكانت أمه أيضًا تقول هذا، وأخوه الصغير أيضًا...

وهناك أمر آخر كان يؤرقه، وهو أن زوجته يمكن تطلب منه بعض الأشياء عقب الزواج. استرخى وفكَّر .. يا تُرى ما الذي يمكن أن تطلبه منه زوجته؟... عندما يصل إلى هذا الأمر في التفكير كل مرة، فإنه يشعر بالضيق... فكان يضع نصب عينيه معاناة أخيه...

لقد تغير أخوه بعد الزواج تمامًا؛ لا أثر أو علامة لذلك الشخص بشوش الوجه، كثير المزاح. كانت أمه تقول كل هذا بسبب هموم الأسرة، كأن أخاه، وكذلك زوجة أخيه، قد أصابهما الهِرَم عقب الزواج، كانا يعملان ليل نهار مثل الفلاحين العبيد الذين يهلكون تحت وطأة صاحب الأرض المستبد، يفكان شيئًا معًا ويُعيدان إصلاحه، ويغسلان الملابس، ويكوونها، وعندما ينتهيان من هذه الأعمال، يضربان أطفالهما، ويصرخان فيهم، ويكسران الأواني والأطباق...

فكَّر في حالهما واغتم؛ لأن "مثل هذه الحياة تنتظره"، وكان ينظر إلى حركات غير منتظمة لحشرات غير معروفة تتحرك في التلفاز، ثم لسبب ما شعر فجأة بغصةٍ، لماذا أُقيمت الحياة على هذا النحو؟!... ليس له حاجة لامرأة أو لأطفال، يُطأطئ رأسه، ويعيش في هدوء مع نفسه؛ لا يتداخل مع أحد، وليس له علاقة بأي شخص، يخرج كل صباح من المنزل، ويتوجه إلى المكتبة؛ حيثيقرأ حتى تتورم رأسه، وتُصم أذناه، يكتب ويُبدع، وقد بقي وقت قليل على موعد مناقشة رسالته للدكتوراه. أما هو فلا يزال يتلذذ من انغماسه داخل أبواب الرسالة وفصولها، وكذلك يستعرض مرارًا وتكرارًا الموضوعات التي سوف يستخلصها ويكتبها في خاتمة الرسالة، ويُراجع كل ذلك، ويشعر بارتياح وطمأنينة لا توصف من هذا.... أي أنه مستمتع من الانغماس في الهدوء العلمي للمكتبة القديمة التي تقع في مركز المدينة، ومن عذرية هذا الصرح العلمي الحنون الذي يختبئ فيه وينجو به من هُراء الحياة الخارجية، قلبه لا يطاوعه في أن ينهي الرسالة ويسلمها ويودع المكتبة؛ لأنه يعلم أن المناقشة التي تنتظرها أمه وكذلك جدته ويعدون الأيام بشوق من أجلها ستكون نهاية كل شيء، ونهاية هذه الراحة المستقرة للأبد.

فكر وقلبه يخفق: ألهذا الأمر صلة؟! هو يعيش على هذا النحو، ربما لا يكبر في السن أبدًا، أو سيموت في المكان الذي يجلس فيه على هذا النحو بعد خمس أو عشر سنوات، وهو يبحث بين فصول الرسالة!!أم أنه - كما قالت جدته - سيكبر في السن؟! سوف يكبر وتخر قواه من الشيخوخة حتى الممات، سوف يعيش عمرًا باهتًا طويلاً يئن ويتألم فيه، هل سيجب عليه أن يقضي تلك الأعوام الباهتة التي لا معنى لها، والتي تشبه الخرقة البالية وهو طريح الفراش؟ انظر، آنذاك سوف تلتف حوله زوجته وأبناؤه وأحفاده وأبناؤهم كما قالت جدته، وسوف يسلطون نظراتهم إليه، ويطعمونه الشوربة ملعقةً بعد ملعقةٍ. أما بعد موته فسوف تغمض زوجته عينيه، وسوف يكفنوه ويدفنوه بكل احترام وتوقير.

كانت جدته تقول إن كل نسله بعد أن يمرض ويقضي شيخوخته معززًا مكرمًا في الفراش، يلتف حوله أبناؤه وأحفاده، وبعد أن يشرب الشوربة ملعقةً ملعقةً يُسلم روحه بكل عِزَّةٍ وفخر.

كانت جدته مجرد أن يتم التطرق إلى موضوع الزواج تقول "عِشْ كلبًا، ومتْ رجلاً"، وكانت بمجرد أن تقول هذا تنصب ظهرها المنحني، وكأنها تتلذذ من هذا المثل.

سوف تُزوّجه أمه حتمًا، كان يعرف هذا من خلال حديثها العذب معه في الآونة الأخيرة. وجدت أمه الفتاة أيضًا، هي من أقاربهم لكن ليست من الأقربين، ومع أن "مدد" لم يرَ شريكة حياة المستقبل، فإن هذه الفتاة كانت تأتي له في أحلامه باستمرار.

في الحلم، كانت الفتاة التي سيتزوجها- شريكة حياة المستقبل- امرأة سمينة، و لها شارب... وتضع يدها في خصرها، وأحيانًا تُقلِّب الطعام بملعقة كبيرة أمام موقد الغاز، وأحيانًا أخرى تُكور العجين، وتمسح عرق جبينها بيدها، وتسير أمام "مدد" ضاحكة في وجهه.

سُمع صوت في الممر، ربما كان صوت أخيه وزوجته ثانية، الله أعلم؛ ربما يغيران مكان الأثاث مرة أخرى. كان ظل أخيه وزوجته الظاهر من الجزء الزجاجي للباب يتداخل بعضه ببعض، ويذهبان هنا وهناك، ويبدو أنهما يحملان شيئًا معًا.

وفي تلك اللحظة، كان سيفتح أحدهما باب حجرته، ويُطل عليه، ويقول له أولاً بلطف: "مدد"، هل أنت نائم؟ ثم بعد ذلك سيقول: ألا ترى أننا نموت؟... ربما تنهض على قدميك، ألا تقوم بعمل شيءٍ أنت الآخر؟!.

فكر "مدد" في عبارة "ألا تقوم بعمل شيء أنت الآخر؟!"، ونهض على قدميه بحركات بطيئة، ودون أن يخلع ملابسه، ودخل في سريره، وسحب اللحاف إلى رأسه.

وعلى هذا النحو، كان يتذكر سنوات الطفولة الغابرة في هذا الجو الخانق الحار المظلم تحت اللحاف... تذكر تلك السنوات مرة أخرى، تذكر مكوثه عند بيت جدته في العطلات، الأشكال العجيبة التي تصنعها جدته من الورق، والتي كانت تشبه شكل الأرنب، وملعب الكرة الذي كانت تصنعه من الجرائد، ولاعبي كرة القدم الصغار، والكور الورقية التي تشبه الحمص، ودخوله في الأوعية المليئة بالمشمش والكرز النظيف المخصص لعمل المُربَّى، ونومه داخل نوى المشمش والكرز داخل الوعاء بعد أن يأكل منها بنهم حتى يشبع، تذكر كل هذا وتأثر...

وفكر في أنه من الغريب أن جدته آنذاك كانت لا تغضب منه لأي سبب من الأسباب، ولا تُعاقبه لأنه أفسد لها المربى، ولكنها كانت تغضب من الآخرين، وتُجبر أخاه على أن يقف بالساعات في ركنٍ ووجهه للحائط.

فكر في "أن جدته ربما كانت تُحبه أكثر من الجميع"، ثم تثاءب. كانت تحبه لدرجة أنها لا تتركه يخرج للشارع، ليس هذا فحسب، بل عند الحاجة للذهاب إلى الحمَّام بالليل، ولا تدعه أيضًا يذهب إلى الحمَّام الموجود في الناحية الأخرى من فناء المنزل. أما وقت الظهيرة، عندما يخرج جميع أطفال المنزل للشارع ويلعبون مختلف الألعاب، كان يكتفي هو بالنظر إلى هذه الألعاب من النافذة. آنذاك كان يتذكر أن فناء المنزل وأطفال الحي الذين تلطخت أيديهم ووجوههم بالتراب واتسخت، وتعالت أصواتهم من الناحية الأخرى من الشارع يبدون له بعيدين، ولا يمكن الوصول إليهم كالأفلام التي كان يشاهدها في التلفاز...

كأن رصاصة قد أُطلقت، فانتفض وجلس مكانه.

كان أخوه يقف وسط الحجرة، وينظر إليه، فألقى فوقه البنطلون المكوي، والقميص الأبيض المطوي، والجوارب النظيفة التي كانت في يده، وقال بجفاء غريب:

-       انهض! سيأتي ضيوف.

ثم انصرف.

أغلق أخوه الباب بقوة وهو غاضب، فاهتزت ستائر النافذة لمدة، وأصدر زجاج أرفف الكتب صوت ارتطام.

فكر يا تُرى ما سر كراهية أخيه له منذ أن تزوج؟

ربما ما يُغضب أخاه، ويُسبب الكراهية تجاهه، هو الهدوء الذي يعلو وجهه. نعم، الأمر هكذا؛ لأنه حدث عدة مرات أن شعر بأن أخاه الذي خرت قواه من كثرة فك وتركيب وتجميع الأشياء مع زوجته، يكره نفسه عندما ينظر إلى عينيه الناعستين، في الوقت الذي يسترخي على كرسيه الذي تشكل بحدود جسمه أو على سريره في حجرته، وفي الوقت نفسه يكون أخوه في يده المقشة والجاروف يكنس الفتات التي سقطت من أولاده. وفي الوقت الذي يهرول أخوه في استراحة الغداء إلى المنزل ويتلوى من الجوع، يفتح له الباب وعلى كتفيه اللحاف وفمه ينزف من كثرة التثاؤب ... وكذلك الذي يبتهج من مشاهدة مهرجان موسيقى الجاز المذاع من سات ريمو طيلة الليل، يحمل أخوه طفله المريض في الحجرة الأخرى، ويتجول به هنا وهناك حتى يصاب ذراعاه بالتنميل، أما عندما ينفد صبره أحيانًا يفتح عليه باب الحجرة وهو يحتضن الطفل، فكان لا يستطيع أن يتمالك نفسه ووجهه يعلوه غضب واشمئزاز مثلما يحدث في أفلام الحرب، ويقول:

-       ألا تخفض صوت التلفاز قليلاً، يا أستاذ "مدد"؟!

كان أخوه ينظر إليه نظرة كراهية في مثل هذه الأوقات، وكأنه لو قال كلمة واحدة، فسوف يبصق في وجهه. كان ينظر له كأن الطفل الذي يحتضنه ليس ابنه، بل ابن "مدد". وكان يُخيل لـ "مدد" أحيانًا أن أخاه يحقد عليه؛ لأن "مدد" وصل مؤخرًا لهذه القناعة من خلال مشاهداته في الأيام الأخيرة، وهي أن أخاه عندما يشاهده يشتاط غضبًا... كأن نحلة لدغته، ويتحول إلى ثور هائج يهز أرضية المنزل، ويسير بخطى غاضبة هنا وهناك، ويرطم أبواب الحجرات، ويُزج أطفاله، ويغضب منهم، وكان لا يأكل لعدة أيام، ولا يجرؤ أن يبوح بالسبب الرئيسي لهذه الكراهية التي يحملها في صدره تجاهه خوفًا من أمه أو من جدته التي تحب "مدد" أكثر من نفسها. لقد تجمع غضب أخيه كاملاً في عينيه وكراهيته له، فلا تستطيع عينا أخيه أن تحمل غضبه الداخلي، فكان يتحول إلى إنسان يعشق الشجار.

كلما نظر إلى البنطلون المكوي الملقى على الناحية السفلية للسرير، تذكر حديث أمه أثناء تناول الطعام أمس بشأن الخالة "خديجة" إحدى أقاربهم من بعيد التي ستزورهم، وسوف تُحضر معها تلك الفتاة من أجل إقناعه بها... تخيل أمام عينيه وجه الخالة "خديجة" الوضاء الذي يشع ودًّا وبهجة، تذكر "مدد" أنه عقب التعرف اليوم على الفتاة التي سوف تُحضرها الخالة "خديجة" يجب عليه أن يُوصّلها إلى منزلها طبقًا لخطة الخالة "خديجة"، فاضطرب واعتل مزاجه.

لقد حام حوله جو ممل مليء بالتوتر وبالزيف لمراسم التعارف، انتصب ودلّ قدميه للأرض، وفكر كيف سيستطيع أن يقوم بهذا الأمر الجلل، ماذا سيعمل تحت وطأة التوتر من هذا الحجم؟

فُتح الباب محدثًا صوت صرير بسيط، أطلت جدته برأسها من الباب، دخلت جدته واقتربت منه محدثة صوتًا بشبشبها، فبادرته قائله:

-       فداك نفسي وروحي يا "مدد".

وضعت شفتيها المجعدتين على جبينه، وقبَّلته، ثم جلست على حافة السرير، ونظرت إلى وجهه بأسى، وقالت:

-       انهض، أُلبسك يا صغيري.

قالت هذا، وكأنها تُشفق عليه.

* * *

نصبت الطاولة الكبيرة في حجرة الضيوف، وزينت المائدة.

كان أخوه يجلس على الكنبة، وليس على المائدة، ويتفقده خلسة، وهو ينظر إلى كسرات البنطلون المكوي بكراهية.

فكر ربما أخوه هو الذي كوى البنطلون؛ لذلك ينظر إليه بعداء، ينظر إليه كي يخجل من نفسه، ما إن جلس، حتى رن جرس الباب، وسرعان ما دخلت الخالة "خديجة"، دبدبت بقدميها السمينتين بهدوء على الأرض، واتجهت نحوه، وقبَّلته من وجنتيه، وكأن حلَّ قضيةٍ مهمة في الحياة مرتبط به، ثم خرجت إلى الطُّرقة، ودخلت هذه المرة ومعها الفتاة. كانت الفتاة جذابة جدًّا وخجولة أكثر مما كان يتوقع "مدد"، ما إن دخلت من الباب، حتى خرجت ثانيةً، وهرولت إلى المطبخ. جلست هناك طيلة المساء، ولم تظهر، قدَّمت الطعام، وغسلت الأواني، وجهزت الشاي، وكأنها جاءت للعمل كخادمة، وكانت تُظهر مهارتها.

مع أن الحوارات على المائدة كانت تدور حول موضوعات مثل قصر العمر، وفناء الدنيا، والصعوبات التي يواجها الإنسان طيلة حياته، وحاجته للسند؛ أي الأسرة من أجل مواجهة تلك الصعوبات، فإن "مدد" طأطأ رأسه لأسفل، وانشغل دون أن يتكلم بكلمة واحدة أثناء تناول العشاء الذي به محشي ورق العنب الذي يحبه، ثم تناول كوبين من الشاي مع فطيرة تفاح صغيرة.

قرب نهاية الجلسة، ذهبت الخالة "خديجة" إلى المطبخ وعادت بالفتاة، أمسكتها من ذراعها، ودخلت بها ساحبة إياها، ووضعت يديها عند خصرها، ونظرت إلى وجه "مدد" بفرحة النصر. جلست الفتاة خلف المائدة كالمختبئ من النظرات المسلطة عليها، طأطأت رأسها لأسفل، وبدأت في انتظار شيء ما كالمنتظر حكم الإعدام.

نظر "مدد" إلى وجنتي الفتاة الممتلئتين، وفكر أنه بالتأكيد لو كانت قد جلست وتناولت الطعام معهم، لأصبح الأمر أكثر ملاءمة وطبيعيًا. ولكنها لم تفعل هذا. وما إن تصل إلى منزلها، فسوف تهجم على المطبخ، وتُخرج على المائدة كل ما هو موجود في الثلاجة، وتأكل حتى ينقطع نَفَسُها.

كان توتر الفتاة يزداد بدلاً من أن يقل تدريجيًّا... ويبدو من الاهتزاز البسيط لسُترتها المصنوعة من الشيفون أن ضربات قلبها تزداد بشدة، تمالكت نفسها وكأنها لا تجلس خلف مائدة يلتف حولها بضعة أشخاص، بل تجلس في بؤرة اهتمام مدينة بأكملها، في أعالي زلقة، وهناك عدد غفير من الناس لا حصر لهم يتتبعون حركات أنفها وشفتيها تحت ضوء كشاف صاخب مُسلَّط على وجهها....

نظر "مدد" إلى وجه الفتاة المضطرب من التوتر، وإلى يديها القلقة، وفكر في أن الشخص الذي يجلس في هذه الحال يمكن أن يُصاب بالسكتة القلبية، ثم نظر إلى وجه أمه المسلطة عينيها القلقتين إلى وجهه، وفكر في أن أمه، وكذلك جدته، مُحقتان في الأصل في اختيار فتاة هكذه. يجب أن تكون زوجته فتاة كهذه: خجولة، متحفظة، طائعة. وأهم ما في الأمر هو أن احتمالية شجار الفتاة معه قليلة للغاية، ثم استحضر أمام عينيه الحياة الزوجية التي سيعيشانها معًا، وكأن الأمر لا بأس به...

كان يسترخي على مقعده الذي اعتاد عليه، ويشاهد التلفاز، أو كان يُريح ذهنه الذي يفكر في الشوارع. أما الفتاة فكانت في مكان ما في إحدى الغرف الأخرى منهمكة في شيء ما، حيث تغسل شيئًا ما أو تنظف المكان، أو تلمع أرضية البيت بالممسحة الحديدية.... أما عندما يمر بجانبها، كان أقصى شيء تفعله هو أنها ترفع عينيها، وتنظر بهذا الخجل إلى وجهه دون كلام.

وكذلك بسبب أحلامه التي رآها في الأشهر الأخيرة، أو بسبب اهتزاز صوت جدته، شعر أنه لو رفض هذه الفتاة، سيكون كما قالت جدته: "سيُبتلى بوحدة البومة"، وعندما يكبر في السن فسيصبح طريح الفراش، سوف يتمدد في أحد أركان المنزل، ويعوي على فراش متسخ، وحتى لو ناح وبكي متأوهًا من أجل شربة ماء، فلن يجد من يسمعه، وحتى لو التصق لسانه بحنكه الذي جف، وأصبح قطعة لحم جافة من الظمأ، وحتى لو نهض على قدميه مترنحًا من شدة الوهن وحبا نحو النافذة، وأراد أن يفتحها على مصرعيها، ويصرخ مستغيثًا بالناس، فلن يخرج صوته، وهناك وفي تلك اللحظة التي خرج نصف جسده خارج إطار النافذة، تفيض روحه وحيدًا... وسوف يجتمع كل سكان المنزل وكل الشارع على مشاهدة مأساة هذه الوحدة، وهذا سيترك أثرًا لا يُمحى في ذاكرة الناس الذين لا يعلمون قدر الحياة الأسرية، وسيكون لهم درسًا لا يُنسى. لقد رأى "مدد" هذا ذات مرة في منامه؛ حيث رُدَّت إليه روحه فجأة في المكان الذي مات فيه معلقًا بالنافذة، ونهض على قدميه في المنام، وخرج إلى النافذة، وصرخ بأعلى صوته في الخارج قائلاً:

"أيها الناس، اسمعوني! الأسرة – هي الأمر الضروري المهم في حياة الإنسان".

والآن إن لم يتزوج من هذه الفتاة، بالتأكيد فسوف تكون نهايته على هذا النحو... هكذا فكر "مدد"، ونظر إلى شعر الفتاة الملتف أطرافه قليلاً، وشرب في نفسٍ واحدٍ باقي عصيره.

وعندما حان وقت الذهاب للمنزل، علت الفتاة حُمرة الخجل أو ربما لأي سبب آخر، وبدت حبيبات العرق على جبينها، وكأن قامتها انحنت قليلاً، ربما كانت هي الأخرى على علم بخطة هذا المساء.

كلما نظر "مدد" إلى هذه الحالة لأي فتاة، انفطر قلبه.

*   *   *

سارا معًا طيلة الطريق دون أن ينظر أحدهما إلى الآخر، ودون أن يتكلما.

كانت الفتاة تتعثر باستمرار لأنها كانت تحاول المشي بهدوء ورقة قدر استطاعتها، وأحيانًا كان الكعب المرتفع بحذائها طويل الرقبة ينزلق فوق الأسفلت مُصدرًا أصواتًا مرعبة تمس أعصاب "مدد"، كذلك كانت الفتاة مشغولة جدًّا بمشيتها، أو لأي سبب آخر، كانت ربما لا تشعر أنها تصدر صفيرًا ضعيفًا كلما سارت.

فكر "مدد" منزعجًا ربما عندها اللحمية... وبسبب هذا الفكر بدت له فجأة الشوارع وكذلك الناس حزينة وبائسة لسبب ما، ثم فجأة حدث شيء، فتعثرت الفتاة مرة أخرى. وعندما أراد "مدد" أن يمسك بها من ذراعها، تعلقت بيديها الاثنتين بذراع "مدد"، ولم تتركها بعد، وكأن تعثرها جاء منحة من الله.... 

سارا مدة على هذا النحو، وبعد فترة شعر "مدد" فجأة بضيق في صدره، وطرأت على ذهنه أفكارًا حمقاء، وكأن الفتاة لن تترك ذراعه مطلقًا بعد ذلك، فاغتم... حرك ذراعه بغلظة وانتزعه من الفتاة.

لقد تبدلت الأفكار التي فكر فيها قبل ذلك رأسًا على عقب... كانت لا تنتظره الحياة التي يتخيلها. سوف تحتضنه هذه الفتاة التي تسير بجواره الآن بقوة بعد الزواج، ولن تسمح له بالتحرك أو التنفس. تخللت بدنه رعشة شديدة البرودة من الفكرة التي طرأت في ذهنه كالصاعقة، ففكر مرتعدًا في أنه لو أوصل هذه الفتاة لمنزلها سريعًا، وتخلص من هذا، لكان خيرًا له؛ لأنه ليس لديه كلام للحديث أو سؤال يسأله.

فجأة ضاق "مدد" ذرعًا، وأوقف تاكسي يمر في الطريق، وفتح بابه. نظرت الفتاة للتاكسي واندهشت، وهزت كتفيها بتعجب وتحدثت لأول مرة طيلة هذا المساء:

-       ألن نصل؟!

شعر بالغثيان من صوت الفتاة وتعبيراتها، فأمسكها من ذراعها وأجلسها في السيارة، وألقى بالنقود في حجر السائق، وقال:

-       اذهب للمكان الذي تقول لك عليه.

سارت السيارة، وسلكت طريقها. تنهد "مدد"، وفتح ياقة القميص، وبدأ في التفكير ببطء.

* * *

تزوج "مدد" من تلك الفتاة بعد شهر.

في صباح اليوم التالي لعب "مدد" مع زوجته لعبة الغميضة في المنزل.

عندما تدخل زوجته المطبخ، كان "مدد" يخرج إلى الشرفة، وعندما تخرج للشرفة، كان يُهرول إلى الحمَّام، وعندما تسرع خلفه للحمام، فلا تجده، وحينما يرفع يده ليحك رأسه، كانت تفعل نفس الشيء، وعندما ينحني ليربط رباط حذائه ذي الرقبة الطويلة، كانت زوجته تتحرك بسرعة وتربطه له، وعندما يمد يده للكوب ليشرب الماء، كان يقترب لأنفه كوب مليء بالماء، ومثل هذه الأمور... كان "مدد" يجد ألف حُجَّة حتى يُشغل زوجته التي ارتبطت به ارتباطًا جنونيًّا، فكان يجعلها تكوي له القميص الواحد خمس مرات، وعلى الرغم من أنه كان يرسلها أحيانًا إلى السوق والمحلات، وأحيانًا أخرى إلى مكتب الإسكان، وأوقات إلى متجر الكتب، فكانت تعود إليه، ولا ترفع عينيها من عليه مطلقًا. أصبح "مدد" لا يستطيع الذهاب إلى السينما أيام العطلة كما كان معتادًا قبل ذلك، ولا يستطيع أن يتأخر كما يريد في المكتبات كما كان يفعل من قبل؛ لأنه عندما يذهب متأخرًا عن موعده إلى المنزل، كانت زوجته تخر على ركبتيها وتبكي وهي طريحة الأرض وتزعج "مدد".

بعد عدة أشهر حملت زوجة "مدد"، وبدأ يخطط لما سيقوم به من أجل الطفل الذي سيولد... كانت أم "مدد"، وكذلك جدته، في غاية السعادة، وصار لـ "مدد" شخص يُغمض له عينيه عندما يكبر في السن، بل له شخصان.