قصة "ليلة السبت"

نهضت وجلست مكانها، كان شعرها متداخلاً بعضه ببعض، يدغدغ عنقها، ويجعلها تشعر بالرغبة في هرش جلد عُنقها. فكرت أنها لو نهضت الآن، ونظرت إلى وجهها في المرآة، ستُصاب بالرعب من شدة الخوف؛ لأن المسكرة التي جفت على رموشها من المساء– الله أعلم– قد انتشرت تحت عينيها، مما جعلها تشبه الشخصيات المخيفة في أفلام الرعب...

إنها لا تتمكن مطلقًا من إزالة طلاء الوجه والعين قبل النوم، إما كانت تنسى، وإما كانت تتعب من كثرة الأعمال الإدارية والمنزل، لدرجة أنها كانت عندما تذهب بالأطفال إلى سرائرهم لتنويمهم، وتتمدد بجوارهم وتحكي لهم قصة، كان يغلبها النوم قبلهم.

في كل مساء، كل شيء يبدأ بمجرد عودتها من العمل للمنزل، وبمجرد أن تطأ قدميها داخل المنزل، وتنصب عليها أعمال المنزل وزوجها وأطفالها كحلم مخيف لا نهاية له...

كانت أمها مجرد أن تراها، تربط رأسها بالفوطة، وتذهب إلى حجرة النوم مستندة إلى الجدران ومتعثرة في مشيتها. كانت تعتقد أنها لن تعود مرة أخرى، وتغلق باب حجرة النوم بشكل كأنها لن تفتحه مرة أخرى، كأنها لا تغلق باب الحجرة، بل أبواب ثقيلة للقصر ستدخل فيه وتذهب فيه إلى النوم الأبدي، وكانت تغلقه بالقفل من الداخل، كأنها لا تدخل حجرتها، بل تدخل من حجرتها إلى أسفل إلى غياهبه، حب لا يُسمع فيه صوت المنزل أو الأبناء، وتموت هناك.

عندما تذهب أمها كل مساء إلى حجرة النوم وهي تجر قدميها خلفها على هذا النحو، كانت تشعر أنها على كرسي الاتهام، وأنها تحت ضوء كشافات صاخبة تظهر جميع تفاصيل ملامح وجهها بدقة متناهية؛ لأنها منذ أن أنجبت الأطفال، والأهل والأقارب والجيران ينظرون إليها على هذا النحو نظرات مليئة بالاتهام والتهكم، كأنهم قبضوا عليها في وقت ما، في وقت قريب للغاية وهي متلبسة بجريمة شنعاء، ويكتمون حزنًا غريبًا في قلوبهم وكلماتهم التي يجب أن يقولوها لها بشكل كأنهم يخافون من أن يصبحوا سببًا في حدوث جريمة أبشع. كان أحدهم عندما يقابلها في الطريق أو في فناء المنزل، يخجل ويقول لها بصعوبة الكلمات التي يديرها من بين أسنانه على استحياء، فكان يقول لها:

-       أمُّكِ مسكينة ؟!.... ارعي أولادك، ماذا سيحدث لو لم تذهبي للعمل عامًا أو اثنين، العمل الحكومي يسير بدونك أيضًا.

ثم يبتعد عنها بخطوات متسرعة، كأنه كان يأخذ حذره من أنها سوف تلكمه لكمة بدلاً من الرد عليه. وعندما تدخل أمها لحجرة النوم متعبة بعد أن تعود هي من العمل، كانت تتذكر لسبب ما ماضيهما – الأيام بحلوها ومرها التي قضتها مع أمها معًا، وحوارات أمها التي تشبه مضمون الأفلام القديمة، وذهابهما إلى السينما معًا أيام الأحد، وشرائهما الأيس كريم هناك وأكلهما الطعام بشهية، ولاسيما عند مدخل السينما....

كانت أمها آنذاك لا تجر قدميها على هذا النحو، ولا تستند إلى الحائط وهي تمشي، ولا تتعثر في المشي.... هي التي شيَّبتْ أمها، وذلك بادعاءاتها الفارغة، ومشكلاتها التي لا تنتهي، وبأطفالها. كانت أمها تشيب بسبب رعايتها إياها، وإطعامها أطفالها، وتربيتهم... فقد ربتها أيضًا على هذا النحو دون أي اعتراض أو كلام، وكذلك إخوانها وأخواتها أيضًا. والآن أيضًا تربى أبناءها، وغدًا أيضًا سوف تربي أولاد أولادها، وأولادهم، وأحفادهم، وأبناء أحفادهم... 

سوف تُطعم أطفالاً لا حصر لهم وهي تجر قدميها، وتتعثر في مشيتها، وسوف تلفهم بالقماط، وتقص لهم أظافرهم الصغيرة بالمقص الصغير، وتُحمَّيهم... عندما تخر قوى ذراعها، سوف ترفع حفاضات الأطفال بأسنانها، وعندما تخر قوى قدميها، سوف تتجول داخل المنزل زحفًا على ركبتيها... آنذاك، ربما تدب الحياة في أمها وتطول ضفائرها حتى تصل إلى كعبها... أو ربما يحدث العكس!... ستنفد قوى أمها يومًا من الأيام في آخر الأمر... وتتمدد على السرير جثة هامدة، ولن تقوم مرة أخرى... وسوف تتنفس بصعوبة وتسلط وجهها إليها دون أي كلام... وتظل هي تكره نفسها، وحبها لذاتها وهي تتلوى من تأنيب الضمير...

عندما تفكر في هذا، يكاد قلبها ينخلع من مكانه... نعم، لو استمرت أمها على هذه الحال، بالتأكيد سوف تصبح طريحة الفراش. كانت هي على يقين بهذا، وتشعر به عندما تنظر إلى قدمي أمها اللتين تتقلصان من المشي، ومن خلال لمسها لأي جزء من جسدها. وكذلك في الآونة الأخيرة، تقلصت عينا أمها كثيرًا عن ذي قبل، وقصرت يداها، وبدأت تشبه أيدي الأطفال. وهي نفسها منذ أن أصبحت أمًّا، صارت لا تفعل ما كانت تفعله من قبل؛ حيث أصبحت لا تلعب بقدمي أمها الصغيرتين والممتلئتين كسابق عهدها، ولا تختضن ذارعها، وتقرص جلدها قرصات خفيفة مداعبة لها، ولا تجلس على حافة سريرها ليلاً وتتسامر معها حتى طلوع النهار؛ فأصبح الآن لا وقت ولا قوة لديها أو لدى أمها لفعل هذه الأشياء. بصفة عامة بعد أن أنجبت الأطفال، كأنها هي وأمها توقفان عن الكلام، تمضي أيامها في طهي الطعام ليل نهار، ونشر الغسيل، وتنظيف المنزل، وتربية الأولاد...

بعد أن أنجبت، كانت أمها لا تهتم بها كسابق عهدها، ولا تهتم هل هي جائعة أم لا، وعندما تتضايق، لا تمسح على رأسها، ولا تأخذ بخاطرها وتُحدثها بود حديث طفل بدأ الكلام حديثًا....

والآن كأن السبب في عيشها مع أمها في منزل واحد هو هذه الأطفال، وكأنه لم يعد منزلاً، بل أصبح إدارة عسكرية تأنُّ تحت وطأة قوانين وأحكام صارمة... خلاصة القول، فإن أطفالها غيّروا كل شيء: أمها، وكذلك هي نفسها، وبيتها.

كل مرة، عندما تصل إلى هذا المقام في التفكير، كي تبرر لنفسها هذا تفكر فيمَ الحل؟... كانت لا تستطيع الذهاب للعمل. لقد انتهت إجازة الوضع، وأمها أيضًا لا توافق على ذهاب أطفالها الصغار إلى رياض الأطفال...

"كانت تربية الأولاد أيضًا أمرًا صعبًا"؛ فكرت في ذلك وهي في شدة العصبية، وسحبت اللحاف على رأسها. تخيلت أمام عينيها هذه المخلوقات الصغيرة غريبة الأطوار التي لا تشبهها ولا تشبه أمها وهم يضايقون هذه المرأة المسكينة ليل نهار، ويُتعبونها ويُتلفون عمرها، ويكادون يتسلقون الجدران المستوية، لا قدر الله، لو حدث لأمها شيء، ماذا ستفعل؟... فكرت في كل هذا، سوف تخنق بيدها اثنين من أولادها، وتقتلهما، وتستريح هي وأمها من هذه القوارض التي على شكل إنسان... ويعود كل شيء إلى سابق عهده. وكذلك لو أصبحت أمها طريحة الفراش– لا قدر الله – سوف تُسلط عليها نظرات حادة غاضبة من الأقارب والأهل والمعارف، وسوف تتعالى أصوات الصراخ المُتهكمة وراء مئات من أصابع السبابة الموجهة إليها من جميع النواحي قائلة لها:

-       عديمة الضمير! ...

كانت تفكر كل صباح في كل هذا، وبصفة خاصة عندما ترتدي ملابسها، وتُقَبِّل الأطفال من خدودهم، وتتجه للعمل. كانت تقضي يومها في العمل وسط تأنيب الضمير والأحزان كارهة نفسها. وكانت أيضًا تفكر في هذا الشأن مساءً عندما تعود من العمل، وتصعد درجات السلم بخطوات بطيئة.... ما إن تدخل من عتبة الباب، حتى يلتف أطفالها حول قدميها عند الباب وقد سئموا من الجلوس طيلة اليوم مع جدتهم، واشتاقوا إليها دون أن يعطوها فرصة لتغير ملابسها. ويجب عليها أن تخلص حذاءها من يد الأطفال المتعلقين بجسدها كالنبات المتسلق، وتلقي بكل طرف من الحذاء في ناحية على الأرض، وتهز قدميها وهي تمر من الطُّرقة إلى حجرتها... بسبب أنها لم تتمكن من تغيير ملابسها، اتجهت إلى المطبخ، ورتبت الأشياء البسيطة التي اشترتها للمنزل في الطريق وهي تشعر بحرارة بسبب ملابس العمل، وكانت تُقَبِّل أطفالها الذين تسلقوا عليها ووجههم متجهة لأعلى ملتفين بأفخاذهم، تُقَبِّلهم من رؤوسهم ومن وجوههم حتى لا يصدروا صوتًا ويُزعجوا أمها التي انسلَّت إلى حجرة النوم. كانت بإحدى يديها تُطفئ تحت إبريق الشاي الذي يغلي فوق موقد الغاز، وباليد الأخرى، تكتم صوت اللعبة التي تصدر صوت صرير فوق الأرض، وبالتوازي أيضًا تغسل يديها وهي ترد على أسئلة الأطفال التي لا تنفد، وتغير ملابسها.... أما الأطفال، فكانوا يستغلون الفرصة ويبعثرون بما تطاله أيديهم فوق الطاولة، ويُسقطون البطاطس المتسخة على الأرض، ويتدحرجون على الأرض، ويأكلون الخضرة متسخة، ويمضغونها، ويواصلون طرح الأسئلة على أمهم.

-       ما هذا؟...

-       خبز.

-       ما هذا؟

-       بيض.

-       فما ذلك إذن؟

كانت أحيانًا تشعر بضيق في صدرها فجأة، وأن أعصابها على وشك الانفلات مثل وتر الكمان المشدود... وكذلك تشعر برغبتها في أن تمد يدها وتنتزع النجفة المعلقة في السقف، وتدمر المنزل بأكمله. ولكن كانت يدها لا تصل للسقف، ولا يطاوعها قلبها لتدمير المنزل... كانت تتنهد منخنقة من الغضب، وتغير ملابسها بفارغ الصبر، وترتدي شبشبها، وتغسل يديها، وكانت طيلة المساء تنشغل بالقيام بالأعمال المسائية منتظرة بفارغ الصبر اللحظة الجميلة– تمام التاسعة– التي سوف تذهب بالأطفال للنوم وهي تعد الدقائق وعينها على عقارب الساعة. كانت تؤكلهم وتُجلسهم واحدًا واحدًا على قاعدة المرحاض، وتضعهم في البانيو وتُحميهم، وتغيّر ملابسهم، وتجفف شعرهم، وتترقب تحرك عقارب الساعة. وعندما تدق تمام التاسعة، تذهب بهم إلى أسرَّتهم وقلبها يخفق من شدة الفرح لأنها ستستريح استراحة الحرية القادمة، وكانت تحكي لهم الحكاية نفسها للمرة المئة وهي تتثاءب وتأخذ سِنة من النوم من حين إلى آخر، وعيناها تنغلق من شدة تعب يوم العمل، وتحنو بإحدى يديها على حواجب الأطفال وشعرهم وتقرصهم من حين إلى آخر... على الرغم من أنها كانت تجتهد وتتمالك نفسها كي لا تنام مع أطفالها ويغلبها النوم، وكي تنشغل بكتاباتها حتى ولو ساعة أو ساعتين، أو حتى تقرأ شيئًا، ولكن هذا لا يحدث. كانت تخر قواها قبل الأطفال داخل الحكايات التي لاكتها الألسنة، وتنام بملابسها، وقد انسالت مسكرة الرموش وانتشرت تحت عينيها، وتغوص في أحلام مخيفة مثل الأساطير.... كانت في تلك الأحلام ترتدي أطفالها كالملابس، وتلبسهم في ساقها بدلاً من الجورب، ثم تحاول أن تخلعهم... ولكن لا تستطيع... كانت لا تستطيع أن تنزعهم من عليها ومن قدميها... كان أبناؤها التي ارتدتهم على جسمها وساقيها يبدأون في الصراخ والبكاء من جميع أرجاء جسدها، والعواء بشكل فظيع كالذي قُطع لحمه... آنذاك كان يُنتزع من جسدها بكاء، ويكاد قلبها يتوقف من الذعر...

بعد مرور وقت من الليل، تستيقظ من النوم، وأحيانًا وهي نائمة كانت تُلقي بملابسها التي تضايق جسمها، وبجواربها التي تُسبب الحكة في ساقيها. وأحيانًا أخرى كانت لا تريد ملابسها وجواربها الخروج من جسدها مطلقًا... آنذاك كانت في المنام تحس بالاختناق بسبب دخان الموقد وهي بملابسها... أو كانت تستيقظ من النوم وهي في النزع الأخير، فلا تستطيع النوم بعد ذلك، وتنهض على قدميها وتتجول كالمجنونة بين الحجرات المظلمة، فكانت تذهب إلى المطبخ وتشرب الماء تارة، وتارة أخرى تدخل الحمَّام، وهناك تنظر في المرآة إلى عينيها اللتين تضخمت حدقيتهما من ذعر الحلم، وكانت ترغب في الموت...

.... فكرت وهي تفرك عينيها ووجهها: ما هذه الحياة التي تعيشها، وإلى متى سيظل هذا؟... استدارت ونظرت إلى أطفالها الذين يغطون في النوم بجوار بعضهم بعضًا على السرير المجاور. كان الأطفال ينامون ببراءة كأنهم ليسوا هم الذين يقلبون البيت رأسًا على عقب ليل نهار، والذي يسري أصواتهم في بدنها ونخاعها.

كانت لسبب ما تُشفق على أطفالها عندما يجمعون أيديهم وأرجلهم الصغيرة عند بطونهم بالليل، وينامون بأجساد مسكينة صامتين. بصفة عامة، كانت تُشفق على الجميع بالليل: على أطفالها، وكذلك على أمها، وكذلك على زوجها "آزاد" أيضًا... كان الجميع بالليل كأنهم تُصيبهم المسكنة. هي الوحيدة التي كانت لا تصيبها المسكنة. كانت في أحلامها تتشاجر مع أشخاص ما، وتقاوم أشياء ما، وتنخنق من الدخان في موقد ما...

... كان "آزاد" نائمًا على السرير الآخر ووجهه لأسفل كأن شخصًا ما فتح الأبواب في وقت من الليل وجره كالجوال الذي لا أهمية له، وألقاه هنا. كان يهمس بهدوء ويداه مدلتان على الأرض.

نظرت ثانية إلى الآلة الكاتبة التي علاها الغبار فوق أرفف الكتب المواجهة لها، وإلى الأوراق المكتوبة التي جمعتها في حافظات قبل ذلك على عجالة ووضعتها بجوار الآلة الكاتبة... كانت هذه هي كتاباتها... كانت هذه الأوراق التي اصفرت وبهتت تحت وطأة أتربة أشهر عديدة مليئة بجملها وعباراتها المتنوعة بين الطول والقصر.... والآن تلك الكلمات التي هي عبارة عن أحاسيسها وأفكارها وأوقاتها المختلفة التي تراكمت فوق بعضها، وكتاباتها على مدار أيام وشهور، وكذلك حالاتها المزاجية؛ كل هذا تغمره الأتربة.... كان لون الأحرف يزول، وتتلاشى الفصلات والنقط، وتتداخل الجمل بعضها ببعض، وتفقد معانيها...

كأن ألسنة الآلة كانت تتكاسل بسبب الأتربة... وبدأت الأحرف تتشابه مع بعضها، علاوة على أن الآلة الكاتبة كانت هي الأخرى تشحب وتصفر أيضًا، وتذبُل نضارتها تحت وطأة الأتربة... وملأ التراب رأسها أيضًا... وبسبب أنها لا تجد فرصة للتفكير منذ مدة طويلة، كانت تشعر أن ذهنها أصابه الركود وغيّر شكله، وأصبح أملس ومُربعًا مثل صلصال الطالب...

لقد أصاب ذهنها الركود، وصارت في هذه الحالة بسبب رتابة وعبثية الأمور التي تقوم بها ليل نهار سائمةً من الدنيا؛ حيث أصبح ذهنها الآن مليئًا بملابس الأطفال الداخلية المبتلة، وملاعق الطعام المتسخة، وبالمكانس، وبالأحذية الصغيرة المتجعدة، وبأرقام الحافلات التي تنتظرها كل صباح في المحطة، وبالوجوه التي تعلوها الحمرة لبائعي اللبن...

على الأقل، كانت قبل ذلك تفكر كما تشاء متمددة في مكانها ومتقلبة على هذا الجانب أو ذاك، حتى يستيقظ الأطفال كل صباح، كانت تكتشف وهي في المكان الذي تتمدد فيه أشياء مختلفة، فتبتهج، ثم تنخنق وتتضايق، إما من تأثير تلك الأشياء التي اكتشفتها، أو بأي سبب آخر، أو تنام من جديد، وتنظر للسقف، ولا تعرف متى غلبها النوم.

مشطت شعرها بيدها للخلف، وفكرت في البداية أن الأمر غريب: كان في الوقت متسع لتفعل ما تريد.... وتفعل ما تشاء: تغير مكان أي شيء وشكله، وتجعله في الوضع الذي تريده، كانت تُدلي رأسها إلى الأرض من سريرها، وتنظر إلى المدينة من الفتحة الزجاجية لباب الشرفة، كانت تتلذذ من رؤية المدينة بالمعكوس تلذذًا خاصًا، وتشعر بحرية غريبة بسبب شعورها أنها وسط السيارات التي تسير في السماء والناس المدلاة الرأس.... كانت الشمس التي تقف أسفل من كل شيء ومن الجميع على هذا النحو تلمع بشكل ضعيف من أسفل إلى أعلى... بعد هذه الشقلبة للمدينة، كانت تبدأ الشقلبة في جعل الأوراق التي تنتظرها فوق الدولاب الموجود بجوار سريرها فوق ركبتيها، وكذلك في تضخيم الحرية التي تملأها ونقلها على الورق وملء المنزل بها... كانت تكتب وتكتب حتى يصاب إصبعها الأوسط بالخشونة وتتألم، وحتى تشعر بالإرهاق والإعياء الشديدين في المكان الذي تتمدد فيه... أحيانًا كانت تظل تكتب ولا تشعر أنها انتقلت من بياض الورق إلى بياض وجهها المتعب، وكانت تُنهي بقية الجملة التي بدأتها في الورق في وجهها المتعب. وها هي تتذكر تلك السنوات بينما لم تتزوج بعد، وكان لا يستطيع أن يعوقها أحد عن الكتابة: لا أولادها أو زوجها، ويكون وجهها مليئًا بالأحرف والكلمات الناقصة، كانت تكتب على الآلة الكاتبة ما كتبته بخط يدها، تهرول لحجرة النوم من أجل البحث عن بقية الكلمات أو الأحرف التي فقدت نصفها في أحيان كثيرة، وتقلب الفراش رأسًا على عقب حتى تجد ما تبحث عنه في نهاية الأمر. تنهدت وفكرت كم كانت أيامًا سعيدة.... لم يكن "آزاد" زوجها موجودًا، أو أطفالها، أو هذه الخرقات المربعة التي تملأ كل مكان...

الآن كل شيء يجتمع عليها ولا يدعونها للتفكير... "آزاد"، وأولادها الذين تعلقوا في رقبتها حتى الموت، وكذلك أمها التي هرمت قبل أوانها، وأحلامها التي تجذبها كالمستنقع العكر بمجرد أن تنام منذ أن أنجبت أولادها، كل هذا لن يدعها للتفكير مرة أخرى.

استدارت، ونظرت إلى ظهر "آزاد" الذي لا يزال يهمس على جنبه وهو نائم. كان هو السبب في كل شيء، الأطفال، وكذلك مباول الأطفال، وعدم حصولها على الأوراق الصفراء التي تظل تحت الأتربة، والتي مزَّجت أفكارها وأحاسيسها مع بعضها ككومة متبعثرة، كل هذا بسببه... لقد التصق الورق بعضه ببعض، وأصبح الآن– والله أعلم– إلى ما يشبه الصلصال الذي لا يمكن قطعه إلا بالسكينة فقط. ولو أرادت الآن، كانت ستقطع ذلك الصلصال على شكل شرائح كما تقطع الخبز، وتضعه في الطبق، وتأكل تلك الشرائح خلف الطاولة وهي غاضبة.

وفكرت وهي في شدة الضيق أنها لو كانت تعقل، لوجب عليها أن تضع تلك الشرائح في يوم من الأيام في الطبق، وتأكلها بالشوكة والسكينة بكل أدب واحترام. لهذا السبب، كانت متأكدة أنها لن تستطيع أن تخلو بآلتها أو بأوراقها المكتوبة وسط هذا الكر والفر. وكانت لا تستطيع أن تلقي بهم في سلة المهملات، ولا تستطيع أيضًا أن توقد الكبريت وتضرم فيها النار. لقد ولدوا قبل أطفالها... ضاقت ذرعًا... وتأففت، وألقت بنفسها فوق الوسادة، وشبّكت يديها فوق بطنها، ونظرت فترة للسقف، ثم استدارت، ونظرت إلى "آزاد"، وفكرت لماذا تزوجت؟... وفكرت أيضًا أنها في الحقيقة: ألم يكن "آزاد" هذا الوسيم المفتول العضلات في حاجة إليها؟... وكذلك ربما لم يكن أطفالها في حاجة لها أو لـ "آزاد"، لم يكن الأطفال بالنسبة إلى "آزاد" شيئًا آخر سوى لعبة. لقد قالت أمها هذا مرارًا، وكذلك "آزاد" نفسه. كان "آزاد" عندما يُداعبهم في أوقات فراغه ويُمسكهم من أيديهم ويلعب معهم ألعابًا مثيرة من أجل أن يملأ وقته، كان هو نفسه يشبه طفل صغير مشاغب.

تحرك أحد الأطفال وهي نائمة، كأن تيارًا كهربيًا قد مسَّها... كتمت نفسها وأخذت تُنصت إلى الصوت وقلبها يخفق. استيقظ أحد الأطفال... ربما شعر بأنها تسترخي وتفكر، فتحرك مكانه، وكان يستعد كي يمنعها عن التفكير. بمجرد أن يستيقظ، سوف يسلط عينيه السوداوين لوجهها في الظلام، ويلفظ السكاتة على الأرض، وسوف يزحف نحوها على يديه. في البداية سوف يُصدر صوتًا وسط هذا الهدوء، وسيقول عدة مرات: "ماما... "، وعندما يرى عدم تحركها، سوف يبدأ في التذمر رويدًا رويدًا، ثم بعد ذلك سوف يبدأ في الصراخ... وسوف يستيقظ الطفل الثاني، ويشاركه الصراخ... وإن لم يحدث هذا، فقبل طلوع النهار، سوف يرتمي الاثنان على الأرض، ويدبدبان بأرجلهما، ويجريان في جميع الأرجاء، وسوف يتملصان يديها، يختبئان تحت الطاولة أو داخل الدولاب حتى لا يرتديان ملابسهما.

وفي لحظة انقلب كل ما في ذهنها رأسًا على عقب... انتصبت بهدوء ونظرت بطرف عينها إلى السرير الصغير القريب منها. كان الأطفال ينامون في هدوء... تنهدت وألقت برأسها على الوسادة، وأشفقت على نفسها، وشعرت بغصة في حلقها.

فكرت، انظر، الكتاب الذي كرست له وقتًا كبيرًا، وبذلت من أجله الكثير، وكان من المفترض أن يُسلَّم لدار النشر هذا العام، سوف يؤجل للعام القادم؛ لأنها لم تستطع كتابة أي شيء. وخلاصة الأمر أنها في قمة الانشغال! حتى ولو فرغت منه قليلاً، حتى وأين وكيف تكتب؟... أما الوقت فيمضي، ويطير بسرعة شديدة ويمر... يجري ويمضي في طريقه دون أن يلتفت لها، أو يحترم حُججها... وتتلاشى وتنمحي داخل رأسها أفكارها وأحاسيسها التي تحتفظ بها في أعماق ذاكرتها منذ سنوات طويلة، والتي كلما احتفظت بها، فقدت قيمتها... تتجمع بعضها فوق بعض، وتفقد معناها ولونها...

... استدارت على جانبها الأيسر، وفكرت في أن هذا يعني أن عينيها ستظلان حتى نهاية عمرها تنظر إلى أعلى على هذا النحو؛ أي إلى الأرفف وإلى الآلة الكتابة التي غمرتها الأتربة، والأوراق المكتوبة التي تشبه الجرائد القديمة الصفراء... عندما تُقشر يداها البطاطس، وتطهي الحساء باللحم، وتجمع الغسيل، وتفرز الأرز، سوف تُعلق عيناها من أعلى.

استدارت، وسلطت وجهها على "آزاد"، كان يظهر منتصف وجه "آزاد" من هناك، نظرت إلى وجه زوجها، وإلى شعره الأسود في ذقنه وخده، وفكرت أنها في البداية قبل إنجاب الأطفال، كانت لا تستطيع أن تُبدع بسبب أن "آزاد" كان مهمًّا بالنسبة لها. كانت تفكر بشأنه ليل نهار، وتنظر إلى كل شيء بعينه، وتتدبر لأيام كل كلمة يقولها، ولكن أصبح الآن كل شيء واضحًا ومحددًا بشكل تام؛ لدرجة أنها كانت تشعر بالغثيان من هذا الوضوح الكامل. وأصبحت الآن تحفظ عدد الشَّعر الموجود في رأسه، وجميع كلامه الذي يرغب في أن يقوله، والذي سيقوله، ومن أي شيء يتعجب وعلى أي شيء يضحك، حتى إنه لم يكن صعبًا أيضًا بالنسبة لها الآن تحديد ما رآه "آزاد" في المنام.

قرّبت وجهها من وجه "آزاد"، وأمعنت فيه النظر. كان يلعب الشطرنج في المنام، يدفع الأحصنة للأمام، ويسحب القلاع للخلف... كان يُكرمش جبهته من التوتر، ويضغط على أسنانه، وينتصر على أحد. كان وجهه كأنه يلوك طاولة الشطرنج ويبلعها، وينظر إلى داخل عيني منافسه الذي يجلس أمامه، ويُحدق عينيه فيه بغضب.

شبّكت يديها تحت رأسها، وفكرت وهي تنظر إلى السقف أن اليوم هو يوم السبت؛ أي أنها سوف تمكث في المنزل لمدة يومين، فاغرورقت عيناها من هذه الفكرة. بعد ذلك، سوف تستمر حياتها على هذا النحو: سوف يتعلق أطفالها بطرف ثوبها، ويتسلقون عليها، ويتذمرون، ويهرسون حذاءها، أما عينها فسوف تظل على الأوراق الصفراء فوق الأرفف، وتمتلآن بالدموع، وسوف تموت كارهة نفسها والدنيا كلها... وبعد أن تموت، سوف تمر السنوات، وفي يوم من الأيام، سوف تقع هذه الأوراق الصفراء في يد أحدٍ... سيقرأها ويقلبها بين يديه على جانبيها...

فجأة أرادت أن تقرأ الأوراق التي كتبتها قبل عدة شهور، وتشفق على حال "المؤلف المجهول" الذي لا يستطيع أن يُكمل كلامه للنهاية...

انتصبت وتقلقلت تقلقل الأطفال وهم نائمون، كأنهم مرتبطون بها بروابط خفية؛ حيث كانت تُحرك يدها، كانوا هم أيضًا يحركون أيديهم، وعندما تستدير على جنبها، كانوا هم أيضًا يستديرون. كتمت نفسها، وتجمدت في المكان الذي تقف فيه، وكأنها ماتت لمدة دقيقة، والأطفال أيضًا كأنهم ملتصقون بها، هدأوا واستراحوا.

فكرت وعيناها على الأوراق: فليحدث ما يحدث، يجب عليها أن تنسل من بين الأطفال، ومن بين طعامهم وملابسهم المبتلة، وأن تصل إلى حريتها تلك التي عكستها في تلك الأوراق، ويجب عليها أن تكمل أفكارها الناقصة، وتُتم جملها، وتختمها. أما الفرصة الوحيدة لتنفيذ هذه المسألة المهمة في الحياة هي هذه الأوقات من الليل التي يُخيم فيها السكون شبه المظلم، والتي يختفي فيها زوجها ويغرق في بحر النوم، وأولادها الذين يجعلونها كالمعلق على الحبل، ولا يُمكّنونها من اقتحام عالمها.

كانت تريد أن تضع قدميها على الأرضية بهدوء، فنهضت البنت الكبرى وجلست مكانها، وسلطت عينيها المستديرتين لوجهها، وقالت بصوت أجش:

-       ماما...

وعلى الرغم من أنها تمددت مكانها بحركات بطيئة كما نهضت، فلم تتركها الابنة، وقفت على قدميها فوق السرير، وصاحت بكل قوتها ممسكة بسور السرير، وقالت:

-       ماما.

استيقظ أخوها المجاور لها على صوتها وبكى.

قطع "آزاد" همسه، ودفس رأسه تحت الوسادة بشخرة غاضبة.

أخذت طفلتها في حضنها، وسحبت ابنها من يده إلى المطبخ.

استيقظت أمها أيضًا على صوت الأطفال، وخرجت من حجرة النوم، وذهبت إلى الحمَّام وهي تجر قدميها، فتحت المياه الساخنة، وشغَّلت الغسالة. كانت رأس أمها أيضًا معصوبة، يبدو أن نوم الليل لم يستطع أن يُهدئ وجعها الذي بدأ منذ مساء أمس. بعد فترة، رن جرس الهاتف، وهكذا، فإن المنزل الذي سعت وهي قلقة أن تحفظ فيه الهدوء دقيقة دقيقة بدأ حياته اليومية المعتادة.

لم يرد الأولاد أن يرتدوا ملابسهم ثانية، كانوا يتملصون من يديها، ويجرون بطول الطُّرقة وأبدانهم عارية، ولفظوا في وجهها طعامهم الذي ملأت به أفواههم وقت الإفطار، وألقوا المرُبَّى على الأرض، فعوقبوا، وبكوا. بعد فترة جلسوا وجهًا لوجه مع أمهم في المطبخ، واستغلوا شربها الشاي، فدخلوا إلى الحمَّام، وأنزلوا الملابس المغسولة على الأرض، وبلّلوا أرجلهم، وجعلوا على الأرضية بقع مياه كبيرة، وجروا هنا وهناك، فعوقبوا مرة أخرى.

لم يتناول "آزاد" طعام الإفطار، استحم بسرعة، وارتدى ملابسه، وخرج من المنزل. بعد خروج "آزاد"، ابتهج الأطفال ابتهاجًا شديدًا، بينما كانت مشغولة بترتيب المنزل، كانوا قد سحبوا أدراج التسريحة الموجودة في حجرة النوم، وأسقطوها على الأرض، ودهنوا وجوه بعضهم بطلاء الشفاه، ثم دهنوا السجاد والجدران...

اشتغلت الغسالة حتى المساء مصدرة صوت صرير، وأتعبت الجميع، وملأ بخار الماء الساخن بالصابون المنزل، وغشيت الرطوبة جميع الأرجاء، وحلَّ المساء في ظل تصاعد أبخرة الطعام وإبريق الشاي الموجود فوق موقد الغاز، وفي ظل رن جرس الهاتف كل خمس دقائق.

احتست أربعة فناجين من القهوة الثقيلة حتى يذهب النوم عنها خلال المساء، وعندما حلت الساعة الثامنة والنصف، ذهبت بالأطفال إلى حجرة النوم، وبعد نصف ساعة من النضال هناك، وفي  نهاية المطاف، ناموا.

بمجرد أن نام الأطفال، حلَّ على المنزل هدوء تام، وبدأ كل شيء يعود إلى أصله... واختفت أمها أيضًا وسط هذا الهدوء... ربما ذهبت إلى حجرة النوم وهي تجر قدميها خلفها كالذي ألقى بنفسه عند ساحل النهر.

بقي ساعتان على عودة "آزاد"، وأحد أسباب السعادة أن "آزاد" يشتغل في الوردية المسائية بالعمل في أيام السبت... نهضت وقلبها يخفق، ووطئت قدماها الأرض بحذر، وسارت نحو أرفف الكتب، وأمسكت الأوراق المكومة فوق الآلة الكاتبة، وبالحذر نفسه، اتجهت إلى الحجرة الأخرى، وأغلقت الباب خلفها، أوقدت النور، وجلست خلف المكتب، ووضعت الأوراق فوق الطاولة ونظرت إليها. كانت الأوراق المكتوبة تشبه الرجل المريض... أصفر الوجه، وقد تهلهلت أطراف الأوراق. أمسكت الورقة الموجودة أعلى الأوراق، ونفخت غبارها... ثم فرشتها جميعًا فوق الطاولة وبدأت تقرأها وتجعلها وراء بعضها بعضًا...

... كانت هذه قصة قصيرة بدأت في كتابتها في وقت ما... تقوم فيها بتصوير أحد أيام شخص ما أو ربما يوم من أيامها هي نفسها... بالرغم من أنها مشطت شعرها بيدها وكتمت نفسها وبدأت القراءة مرتعشة، فقد ذهبت رعشتها بعد الصفحة الثانية... كانت بطلة القصة– أي هي نفسها– قد ظلت تحت تأثير مشاعرها المصطنعة وغير المفهومة. وبسبب رتابة الحياة وسآمتها، كانت مشغولة بالغوص في أعماق ذاتها واكتشاف أشياء هناك...

ألقت الأوراق فوق الطاولة، وغطت وجهها بكفيها... لم تجد شيئًا سوى نفسها في هذه الأوراق الصفراء التي كانت تنظر فيها بتأمل كالذي ينظر إلى شخص عزيز كان أسيرًا منذ فترة، والتي تعتقد أنها ملاذها الأخير وطوق النجاة الذي سوف تستطيع أن تنجو به...

ضاقت ذرعًا... على الرغم من أنها أرادت تمزيق الأوراق ونثرها على الأرض، لم تفعل هذا، استرخت على ظهر المقعد، وتنهدت، وفكرت في أن ما تكتبه هو امتداد لحياتها التي تريد التخلص منها... أو على العكس، فالاثنان في نهاية المطاف لا معنى لهما، ومملان. كانت تعيش سواء في الحياة، أو في كتابتها كأنها داخل وعاء ضيق شبه مظلم لا أرض فيه ولا سماء ولا هواء... لماذا تعيش على هذا النحو؟... انظر كم من السنين مرت منذ كتبت هذه الأوراق؟!... ولكن لم يتغير شيء مطلقًا. كانت كتاباتها تستمر في التطابق معها، وكذلك هي بالنسبة لكتاباتها.. ثم لو قرأنا ما كتبته، سوف تتمثل أمام العين شكل الأشخاص الموجودة في كتاباتها... اقشعرَّ منبت شعرها من الخجل.

انظر ماذا فعلت من أشياء ؟!. كانت تدخل محال بيع الأدوات المكتبية لعدة سنوات، وتشتري أكوامًا من الأوراق بكل أدب واحترام... كانت تملأ الأوراق بما يطرأ على ذهنها ظنًّا أنها كاتبة، وسط هدوء حجرة المكتب... علاوة على أنها اشترت آلة كاتبة تظل تدق عليها ليل نهار، وتُزعج الجيران... كما أنها كانت لا تكتفي بهذا، بل كانت تقرأ ما كتبته على بعض الأشخاص بكل فخر واعتزاز...

... كرهت نفسها، كم هذا أمر عبثي ومضحك؟!. لماذا كانت لا تجلس في المنزل، وتقوم بواجباتها كزوجة، وتجمع أطفالها حولها، وتتلذذ بحكي القصص لهم؟!... ما هذا الأمر، ألم يخطر ببالها؟...

... خيم الهدوء على الشارع، وكأن كل شيء غرق تحت الماء– المنزل، الشارع، وهي معهم أيضًا.

خيم على المدينة بأكملها الهدوء، وأنصتوا لها... كانوا ينتظرون كتابتها، وكانت تفكر كثيرًا وتنظر لأطفالها وزوجها وبيتها كعائق ومانع لها، وتتمنى لو كانوا غير موجودين، كانت ستبني الجبال الشوامخ...

كانت أمها أيضًا تعرف أنها غير موهوبة، وكذلك "آزاد"، وكذلك الآخرون. ولكنهم فقط كانوا لا يريدون أن يكسروا بخاطرها، ويضايقوها. كانوا يضحكون حرجًا ويقولون مُجبرين: "شيقة... "، وهم في الأصل ينقذون أنفسهم. كانت أمها تضطر أن تتمالك نفسها، وتكتم نفسها، وتصبر على عذابها، كانت تربي أطفالها، وتطهي الطعام، وكذلك سئم "آزاد" من أفكارها المريضة حول الدنيا، وبمجرد أن يفتح الباب، كان يهرب ويمضي إلى حال سبيله.

ليس الأمر يتوقف على "آزاد" و"أمها"، بل الجميع سئم منها. كذلك كان من معها في العمل عندما يرونها، يتثاءبون، وكذلك الجيران الذين تقابلهم في فناء المنزل يلقون عليها السلام وهم يتثاءبون أيضًا، وكذلك قراء كتبها التي تكتبها وتنشرها، كانوا أيضا يتثاءبون حتى تكاد أفواههم تتمزق...

... كانت تنظر ليديها التافهتين التي جمعتهما فوق الأوراق. كانت يداها مثلها عادية وغير مرهوبة. فكرت ربما تفتح النافذة وتلقي بنفسها لأسفل... وقبل أن تلقي بنفسها، فلتكتب جملة واحدة، بالتأكيد جملة واحدة تتركها: "أنا لست كاتبة". كلما فكرت هكذا، تشعر في حلقها بغصة غريبة لم تشعر بها مطلقًا قبل ذلك... غصة حارقة يمكن أن تخنقها وتُميتها في المكان الذي تجلس فيه...

كانت كلما تساقطت دموع عينيها الدافئة على الأوراق، فكرت أنه يجب قبل أن تقتل نفسها، تتخلص وتمحو أولاً الآلة الكاتبة والأوراق المليئة بهذه الجمل السفيهة، وذلك من أجل أن تنجو من كل هذا العار. يجب عليها الآن- على الفور- وأهل البيت والجيران نائمون أن تنزل إلى الفناء، وهناك تدفن الآلة الكاتبة في التراب في مكان بعيد عن الأنظار، أما الأوراق فجيب عليها فقط أن تضرم فيها النار. ثم فكرت أيضًا، ماذا تفعل إذن في الأعمال المنشورة ؟!... ألن تستطيع أن تنزعها من أذهان الناس وتدفنها في التراب ؟!...

اغرورقت عيناها بالدموع للمرة الثانية... وضعت يديها على ركبتيها وبكت في صمت. وفكرت وهي تبكي أن الشيء الذي كانت تخاف منه طيلة عمرها هو أن تكون في يوم من الأيام لا أهمية لها، وقد حدث هذا بالفعل. في الحقيقة، لقد أنجبت الأبناء لهذا السبب، وبدأت الكتابة أيضًا خوفًا من هذا، ونشرت ما أبدعته أيضًا لهذا السبب، وتزوجت أيضًا لهذا السبب... كل شيء ذهب سدى، هي ليست ضرورية لأي شخص، حتى ولو خرجت للنافذة في الحال، وألقت بنفسها وانتحرت، لن يتغير أي شيء على الإطلاق في حياة أحد، أقصى شيء سوف ينظرون إلى جثتها الشابة، ويقول بعضهم: "خسارة... "، وانتهى الأمر بذلك. بعد موتها، سوف يستمر أولادها يكبرون كما يكبرون وهي في العمل... وسوف يذهب "آزاد" إلى عمله ويعود كالمعتاد، وفي أوقات فراغه، سوف يلعب الشطرنج، ويتابع كرة القدم... وسوف تستريح أمها من رؤية وجهها الساخط على الحياة، سوف يسلم الجيران على بعضهم بعضًا ليل نهار، ولن يشعروا بفارق بين وجودها وعدمه، وسوف يقرأ الناس الأعمال الإبداعية للكُتَّاب الحقيقيين...

أغلقت فمها بيديها كي لا تجهش بالبكاء، وكتمت صوتها بداخلها.

سُمع صوت أحد الأبناء من الحجرة الأخرى...

نهضت وذهبت لحجرة النوم.

جلست بنتها الصغيرة مكانها، ومدّت يديها الصغيرتين نحوها قائلة: "ماما"، ثم بدأت في البكاء.

احتضنت الطفلة الصغيرة وضمتها لصدرها، وأخذت تنهال عليها بالقبلات على عينها ووجها كالمجنونة، وبدأت تبكي بهدوء.

وضعت الطفلة رأسها على كتفها وصمتت، كأنها غاصت في النوم.

فكرت وهي تهدهد الطفلة في حضنها، وفكرت كدرًا، ربما الحياة بعد ذلك سوف تستمر على هذا النحو، ولكن أطفالها سوف يكبرون يتامى بدون أم.

الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.