قصة "وحدي في المنزل "
صوت ضجيج يعلو من الغرفة المجاورة، ربما كانت الأم تقوم بترتيب المنزل. وكالمعتاد، كانت تحرك الكراسي إلى الأركان، وتنظف أسفل المنضدة وبين الأرفف.
دار في مخيلته هذا كما كان يحدث دائمًا. انتهت الأم من عملها في غضون ساعة ونصف، كنست الأرض، وغسلت الصحون، بعد ذلك لاح في الأفق ضوء النهار، فخرجت إلى العمل.
تقلب في مكانه لفترة، مفكرًا بشأن أمه، ثم نهض واقفًا على قدميه، وأسرع نحو المطبخ على أطراف قدميه، وأعد لنفسه خبزًا مع الزبد على عُجالة، عاد إلى حجرته مرتعدًا من شدة البرد، وانسل تحت اللحاف، وتحت عتمة اللحاف الثقيل أكل الخبز بالزبد الذي يتفتت كلما قضمه، فانتشر الفتات على الفراش وعلى ذراعيه. وبعد أن أنهى تناول طعامه أزاح هذا الفتات من على الفراش، وأخذ نفسًا عميقًا، وأمعن النظر إلى السقف.
فكر، كم هو رائع أنني ما زلتُ طالبًا، وأدرس في كلية سهلة! جيد أنه ليس لدي محاضرات في يومين من كل أسبوع، والأروع أن اليوم هو أحد هذين اليومين، كم هو جميل أنني أقضي هذين اليومين كما أشاء: أتمدد كلما أحببت، وأستطيع التفكير في الأشياء التي أرغب فيها.
تمطى... شعر بحكة في ضلعه الأيمن، وكلما هَرَشَ ضلعه، تناثرت بقايا الخبز التي تنتشر على جسده وسريره بسبب كل حركة صغيرة يقوم بها، فيغير مكانه، وتتملكه الرغبة في الهرش من جديد. بعد ذلك فكر وهو يحدق في السقف لمدة طويلة، لو كان السقف مفتوحًا الآن، أي لو يمكن فتح السقف مثل فتح سقف السيارات الصيفية من خلال الضغط على زر أو من خلال سحبه للخلف، لكان شيئًا ممتازًا. واعتمر ذلك في خياله فتمدد في مكانه وضغط على الزر الخفي، وفتح السقف، ونظر إلى النجوم المتناثرة في كبد السماء، وهو في نفس المكان الذي كان يتمدد فيه على سريره!!
تفتت جص السقف، وتساقطت بعض أجزائه بسبب تسرب مياه المطر، محدثة بقعًا غريبة، والذي يحدق في هذا تتراءى له صحراء رمادية اللون بها تلال منخفضة، ويخيل إليه وجود جبال أيضًا. ولأن بعض تضاريس الجبال غير واضحة، فلا يمكن تحديد ارتفاعها بدقة.
فرك عينيه، ونظر إلى هذا المشهد، كأنه ينظر من مكان بعيد، وخُيِّل إليه هذه المرة أن كل هذا المشهد غير موجود في هذا المكان على الإطلاق... في سقف حجرة النوم، بل في مكانٍ ما بعيد جدًّا، من المسافة التي تبدو بارتفاع الطائرة، فتظهر الجبال الشامخة والوديان العميقة صغيرة جدًّا على هذا النحو.
بعد ذلك مال بنظره نحو الحائط المواجه للسرير. رغم أن الجدار لم يكن ناعمًا مستويًا، فلم يستطع أن يُشبّهه بأي شيء، وفكر، يا تُرى لماذا جميع الأسقف والجدران والحجرات تُبنى على شكل مربع؟ تنظر إلى اليمين تجد زاوية، تنظر إلى الشمال تجد زاوية أخرى: زاوية علوية، زاوية سفلية، خطوط في كل مكان، مستطيلات، دوائر... كم يمكن رؤية هذه المربعات؟!
ثم أمعن النظر في زوايا السقف والجدران، لدرجة أنه تخيل أن رأسه هي الأخرى أصبحت على شكل مربع، وعينيه أيضًا. انظر، لو نهض على الفور، ونظر من النافذة إلى الشارع، رأى أن كل شيء هناك أصبح مربع الشكل، ولكن لم ينهض، لم تكن لديه رغبة في الوقوف على قدميه ثانية.
فكر، ماذا سيحدث يا تُرى لو أصبح كل شيء- المنازل والشوارع- مستدير الشكل؟ وكل شيء أصبح مستديرًا: المنازل مستديرة، والخزائن مستديرة، والأسِرَّة مستديرة، ما أهمية هذه الأركان والزوايا المظلمة التي لا معنى لها؟ على أية حال لن نحتاج إلى الزوايا لو وَحْدَّتَ أطوال أضلاع كل حجرة و... وأضفتَ إليها زوايا الحجرات الأخرى. حينئذ، سوف تتكون قاعة واسعة ساطعة الضوء. وبهذا المنطق الهندسي يتداخل كل شيء ويتوافق؛ فالمحيط من حيث المساحة التي يشغلها سيكون أضيق من جميع المكعبات والمربعات والمستطيلات ومتوازي المستطيلات.
سُمع صوت طقطقة من المنزل المجاور والملاصق للحائط، وبعد ذلك بدأوا في العبث في ماكينة الآلة الكاتبة.
جمع فخذيه وجذبهما نحو بطنه، ووضع رأسه تحت اللحاف، ورغم أنه سد أذنيه بذراعيه، فلم يستطع التخلص من ضجيج الماكينة، ورغم أن فكره قد تشتت، فإنه بدأ مرة أخرى في التأمل والتفكير بهدوء بشأن الأشكال الهندسية الأخرى كلٌّ على حدة...
قارن بين المستطيل والمربع، والمثلث والمخروط، وتداخل أضلاعها مع بعضها، ثم تخيل حجرة نومه على شكل أسطواني مرة، ومخروطي مرة ثانية، ودائري مرة ثالثة، وقلّب الأشياء الموجودة بداخلها، حتى أصابه الإرهاق. استدار على جانبه الأيسر، وتمدد نصف ساعة وهو على هذه الحالة.
أوشك غضب الجار الموجود في الناحية الأخرى من الجدار أن يقضي على الماكينة... كان الجار الذي لا يستطيع تذكر وجهه على الإطلاق يضرب على أزرار الآلة الكاتبة بكل قوته، كأنه لا يريد كتابة كلام على الورق، بل يريد الكُتَّابة بدم أصابعه. بعد فترة ارتفع صوت الآلة قليلًا.
أدرك أن الجار الذي تخيله في ذهنه كان نحيفًا وعصبيًّا يكتب على الآلة الكاتبة بأربع أيادٍ، وأنه أضاف إلى يديه الاثنتين قدميه أيضًا، وأصيب بالجنون.
همهم وألقى اللحاف من فوقه، وأصبح التمدد والتفكير في أي شيء تحت وطأة هذا الصوت أمرًا من العبث. ينبغي عليه الآن أن ينهض، ويخرج إلى طُرقة الشقة، ويتجه نحو الحمَّام، وهناك يقف أمام الحوض، ويقلب الصابون بين يديه وهو يغسلها... كان يشعر بقشعريرة في بدنه.... لأنه كان يعتقد أن هذا الملص يخرج من جلد راحة يديه. وذات مرة في المنام ظل يغسل يديه بالصابون بشدة لدرجة أن فقاعات الصابون تكاثرت وغطت جميع الأرجاء... فانغمس هو وسط ذلك البياض، وتلك الرغاوي الخفيفة...
تذكر الآن ذلك الحُلْم ثانيةً... لا يوجد سبيل آخر. يجب عليه أن يغسل يديه، ويضع الكتب والدفاتر أمامه، ويتذكر كل ما حدث شيئًا فشيئًا؛ لأن الامتحانات على الأبواب.
في الحقيقة، لقد سأم التفكير في هذا الشأن. ربما فكَّر أمس، أو أول أمس في هذا الموضوع. ولكن بعد ذلك عمل شيئًا أو لم يعمل؟... كان لا يستطيع أن يتذكر هذا.
أسند مرفقه على مقدمة السرير وتنهد. وبسبب الالتفات يمينًا ويسارًا أصبح يشعر بدوار منذ أن استيقظ من النوم، وكذلك ربما كان رأسه يؤلمه. تمدد على ظهره وشَبَّكَ يديه فوق بطنه، وأخذ في التفكير، يا تُرى عندما يتمدد الإنسان على ظهره، في أي وضع تكون أمعاؤه، ومرارته، ومعدته؟... وفي اللحظة نفسها شعر بالغثيان من هذا التفكير، وتمطى وفكر: لماذا تفكر في مثل هذه الأشياء الحمقاء؟ أبسبب الفراغ، أم بأي سبب؟
تقول أمهإن هذا بسبب الفراغ.
وضع الوسادة تحت رأسه، وأخذ يفكر قليلًا في الفراغ. الفراغ ليس بالشيء السيئ... فأدرك أن الإنسان في أوقات الفراغ يجد الفرصة للتفكير في ذاته بعمق، وفي الدنيا التي يعيش فيها، حينها استراح. وبعد ذلك، فكَّر في مصدر هذا، وأي من البشر يكون أكثر ميلاً للعزلة، واكتشف بدائل مختلفة، واستخلص النتيجة، وتثاءب.
سُمع صوت سيارة القمامة من فناء المنزل. وبعد فترة تعالت أصوات بعض الرجال، واختلط بعضها ببعض.
جمع ركبتيه وأسندهما إلى بطنه، وفكر ربما أن هؤلاء هم جامعو القمامة، في أي شيء يتجادلون بهذه العصبية، هم يقسمون مهام كل واحدٍ منهم على هذا النحو. وبعد ذلك ارتفع صوت ضجيج ما، ثم تعالت أصوات ضحكاتهم.
فكر في أن هؤلاء الأشخاص الذين يقضون حياتهم وسط عفن القمامة يتعصبون بهذا الشكل كل يوم، ثم بعد ذلك يتبادلون الضحكات، يفرّغون الصناديق المليئة بالقمامة، ثم يستريحون. ولكن لو تعمق في الموضوع، فسوف يتضح له أنه لم يتمدد أحد منهم على السَّرير، ولو مرة واحدة في عمره كما يفعل هو، ويخوض في أحلامه البعيدة دون استعجال لأي مكان، ولم يفكر في نفسه، أو بصفة عامة في الدنيا التي ولد ويعيش فيها.
وُضع المفتاح في قفل الباب، ولم يمض كثيرًا حتى جاء صوت تنهد أمه، ربما كانت أمه تأتي من السوق، وربما كانت يداها ممتلئتين. كانت يدا أمه بالفعل مملوءتين، رأي هذا من باب الغرفة المفتوح قليلًا باتجاه الممر، دخلت أمه من الباب متجهة نحو المطبخ تتمايل من ثِقل السلاَّت المليئة بالفاكهة والخضروات.
وبنظرة إلى السلات الموجودة في يد أمه التي مرت من أمام الممر، عرف أن كلا السلتين تمثلان نفس الوزن، لم يكن في هذا الأمر صعوبة، كان يكفي النظر إلى كتفيها المتوازنين في ارتفاعهما وانخفاضهما كالميزان وهي تحمل السلات. حملت أمه السلات إلى المطبخ، وبدأت ترتب الخضروات والفاكهة التي اشترتها محدثة بعض الأصوات بالمطبخ، ثم ربما جلست على طاولة المطبخ لتلتقط أنفاسها.
شعر بالضيق بسبب ارتفاع أنفاس أمه، أو جلوسها هادئة دون كلام في أحد أركان المطبخ وحيدة، أو لسبب ما لم يفهمه... لقد أشفق على أمه.
اعتقد آنذاك أن أمه ربما ضاقت ذرعًا منه، ومن نفسها، ومن السلات متساوية الوزن التي تملأها كل يوم، وتصعد بها طابقًا طابقًا... فكر في أنه يجب عليه أن يذهب إلى السوق، أو على الأقل، بمجرد أن شعر بفتح الباب، كان يجب عليه أن ينهض على قدميه، ويأخذ السلات من يدي أمه... انظر، آنذاك، ربما كانت أمه لن تتنهد هكذا، أو لا تكرهه أو تكره نفسها بهذا القدر. بعد ذلك، فكر في أنه لو نهض وأخذ السلات من أمه، لسلَّطت عينيها المليئة بالتهكم إليه وستحرجه وتقول له:
- خيرًا؟ لقد أشرقت الشمس... منذ متى؟!
أما هو فقد سأم من الخجل... حسنًا أنه لم يظهر... لو رأته أمه وهو لا يزال بملابس النوم، ستشتاط غضبًا، وستراه رأي العين وهو لا يزال يتمدد على السرير، وحينئذ كان سيرتفع ضغطها... وبعد ذلك شعر بسرعة دقات نبض قلبه بسبب ما خطر بباله من أفكار.
لماذا يا تُرى لا يستطيع أن يبتعد عن هذا الفراش واللحاف الذي له رائحة الورق؟... لماذا لا يستيقظ من النوم مبكرًا كسائر الناس، ويذهب إلى السوق؟... لماذا يسمح أن تذهب أمه المتعبة من عمل المنزل إلى السوق، وتقف في برد الشتاء، وحر الصيف في الطوابير هنا وهناك تنتظر الدور، وتحمل في يديها كل هذا الحمل، وتصعد به طابقًا طابقًا، وهي منحنية الظهر بسبب ثقل ما تحمله؟... لا، لا يصح هذا الأمر– فكر ودقات قلبه تزداد– سوف يذهب هو بنفسه إلى السوق من الغد!... ما الصعب في هذا؟... هذه ليست مسألة رياضية معقدة حتى تُغضبها!
بعد ذلك تخيل أمام عينيه هذا أيضًا؛ كيف أنه يذهب إلى السوق وفي يديه السلات الفارغة قبل أن تشرق الشمس... وكيف أنه يقترب من طاولات البيع المليئة بالبصل والبطاطس المملوءة بالطين ويملأ السلات؟... وفي هذه اللحظة تذكر أنه منذ فترة، وقبل عدة سنوات، قام بالذهاب إلى السوق...
تذكر ذلك اليوم، كان الجو شديد الغيوم... ماذا لو نزل الغمام على عينيه من هول التسوق الذي سوف يقوم به؟ كان البائع مستاءً، وكذلك الرداء الذي كان عليه أصابته الغمامة من الضجر، والبيض الذي كان يبيعه... يتذكر ذلك اليوم العاصف، اشترى أولاً اللحم، ثم البيض، ووضعه بعضه فوق بعض دون اكتراث، لقد فقد صوابه بسبب تقلب الجو المفاجئ، ذهب إلى المنزل وهو يرتعد، وعندما رأى البيض مسحوقًا تحت اللحم الذي كان أكثر من نصفه عظم، نظرت إليه أمه في حسرة شديدة، وكأن مصيرها قد تغير.
وبعد ذلك اليوم، يتذكر أنه بسبب هطول المطر وابتلاله بشدة، ارتعد وأُصيب بالسعال لمدة أسبوع، ورأى أحلامًا غامضة ومخيفة.
أخذ نفسًا عميقًا، وفكر في أن أمه، ربما منذ ذلك اليوم عرفت أن حمل مشتريات السوق مهما كانت ثقيلة، فإنها أخف عليها من إلقاء البيض المكسور في سلة المهملات.
تثاءب... وتثاءب لدرجة أن فكه أحدث صوتًا، وكأن أمه أصبحت لا تهتم به، وكأن أمه لا تهتم بوجوده من عدمه في المنزل، سواء أكل أو لم يأكل. فكر وهو ينظر نحو شعاع الشمس الرقيق الساقط حديثًا على الجزء السفلي من الحائط المواجه له أن أمه ربما نسيته؛ أنسيت أمه تمامًا أن لها ابنًا بهذا الاسم وهذا الطول وهذا الشكل؟!
رأى وجه أمه من فتحة الباب... كان وجهها يبدو متعبًا؛ لأن شعرها تناثر على جبينها وفوق أذنيها بعض الشيء، فهم من إرهاق أمه أنها لم تنسه، ما أجمل أنها لم تنسه!
أطلت أمه من الباب المفتوح قليلًا، ونظرت بعيدًا عنه بوجهها المتعب بمسافة شبر، ولم تنظر إليه، وقالت إنها ذاهبة إلى المدرسة لاجتماع هناك، وعندها درس في المساء أيضًا، وأنها لم تجد وقتًا لطهي الطعام، وعليه أن يُعد لنفسه شيئًا من الطعام يأكله. وقالت أمه شيئًا آخر، ولكنه لم يسمعه لأنه كان يتمطى.
قالت أمه كلامها، وانصرفت، ولم يمض وقت طويل حتى سمع صوت غلق الباب بهدوء من الناحية الأخرى للممر، وما إن أُغلق الباب حتى بدأ يسمع صوت دقات ساعة الحائط المعلقة في الحائط المواجه له التي تشبه رجلاً غاضبًا ذي شارب.
كان يكره الساعة بصفة عامة، والسبب في هذا هو أن هذا الجهاز المزعج الذي يشبه دولاب حائط ببندول أكثر من كونه ساعة كان يُثبت له وجوده على مدار الأربع والعشرين ساعة يوميًا، من خلال دقاته بعناد مستمر دون توقف؛ حيث كانت تعمل دون أن تصمت دقيقة واحدة أو دون أن تأخذ نفسها أو دون فاصل. وكلما دقت، كانت عقاربها الصغيرة تتحرك. أما في بعض الأوقات، ولاسيما في الصباح، فكان يدخل في النقاش بآلته الكاتبة جاره "العصبي" الموجود في الناحية الأخرى للجدار الذي يستند إليها سرير "صديقه" ذي الشارب. كان هذا يقول: "تك – تك"، والآخر كان يقول: "جق – جق"، وفي الآونة الأخيرة، كان يشعر بالضيق في حجرة بها ساعة، اكتشف هذا الأمر مؤخرًا؛ لأنه فطن مرارًا إلى أن هذا الجهاز المزعج يُسلط عليه عقاربه طيلة اليوم، ويُأرجح بندوله ممتعضًا. ومع أنه يحاول تجاهله، ويلتفت مكانه ويُحول وجهه للحائط، ويُدير ظهره للساعة، ويحاول أن يضع الوسادة على أذنه لينام، فإنه يشعر أن الساعة من أحد جوانب الحجرة تُركز عليه، وتحرك بندولها و"تمتعض".
ولولا خشيته من أمه، لأخذ هذا الجهاز المتبختر من الحائط، ودون أن ينزل إلى فناء المنزل، ويخرج إلى الشرفة، ويلقي به من هناك في منتصف الفناء مباشرة.
لقد قال لأمه مرارًا إن دقات الساعة تعوق تركيزه، واستذكاره، ونومه، لكي تنزعها عن هذا الحائط وتعلقها في مكان آخر. أما أمه فكانت تستمع لكلامه بعدم اكتراث، وتهز رأسها وهي تقول "حسنًا"، أما الساعة فلا تحركها من مكانها مطلقًا.
اعتقد أن أمه قد سئمت منه، وأنها تُولي هذه الساعة اهتمامًا أكثر منه. كانت تملأها في وقتها، وتمسح الغبار من عليها وتُلمع زجاجها، كأن أمه تُعلق نظام حياتها بالساعة؛ حيث إنها تضبط يومها بالكامل حسب إشارة عقارب الساعة. عندما تُحرك الساعة بندولها وتدق ست دقات، تستيقظ أمه من النوم، وعندما تدق سبع دقات، تخرج أمه من المنزل وتذهب إلى العمل، وعندما تدق ثلاث دقات، تعود أمه من العمل للمنزل... مادامت الساعة تعمل؛ فأمه تعمل، ومادامت أمه تعمل، فالساعة تعمل. وعند نوم أمه، فالساعة تضجر وتوقظها. وعندما تنام الساعة، تشغلها أمه، وكأن الاثنتين تعملان في إدارة واحدة.
كان أحيانًا يعتقد أن أمه تحب الساعة أكثر منه، وربما لهذا السبب كان لا يريد أن يرى الساعة أكثر من غيره. ومن أجل الانتقام منها، عندما أخذت في الدق لمدة طويلة، فإنه لم ينهض، ولم يذهب إلى الدرس متعمدًا من شدة غيظه.
أَطَّ بطنه، فرأى أنه يجب أن ينهض، ويذهب إلى المطبخ، ويأكل هناك جيدًا، ثم عليه ألا يعود إلى هذا الأمر مرة أخرى، حتى لو فكر ثانية في هذا الشأن، فعلى الفور سوف ينسل ما يفكر فيه كالغبار، ويمضي إلى حال سبيله، وينساه. تنهد، وأخذ ينظر إلى السقف مرة أخرى.
كلما غيّم الجو، كانت "الجبال" و"الوديان" الموجودة في السقف تبدو مرعبة أكثر، كانت تُذكر هؤلاء بأماكن ما: جبال ناصعة البيضاء صماء، وظلال سوداء مصطفة بجوار الجبال، ووديان معتمة، كان كلما غيّم الجو، كبرت الظلال، وتتعمق "الوديان" أكثر. نعم تذكر صورة مُكبرة للقمر الذي رآه على غلاف العدد الأخير من مجلة "أمريكا"... نفس الشيء، الجانب المحدب أبيض– ربما كان هذا الجانب هو المواجه للشمس، والجانب الآخر ظل شديد العتمة... وبعد ذلك فكر لو التقط صورة لهذا السقف من هنا وكبّرها، هل سوف تشبه سطح القمر؟
لفَّ راحة يديه كالمنظار، وبدأ ينظر إلى الجزء الوعر البارز من السقف بسبب الأمطار.
نعم، إنها تشبهه... تثاءبت القطة التي كانت نائمة في دفء فروها كالموقد تحت قدميه طيلة الليل، وشدت ذراعيها وقدميها، ونهضت على مخالبها، وأحنت ظهرها كالقوس، وتمطت ثم جلست على قدميها الخلفية، وسلطت عينيها الذهبية نحوه. انتفضت من كسل النوم في المكان الذي جلست فيه مدة على هذا النحو، ثم التفَّت على نفسها مرة أخرى، وأخفت رأسها وسط بطنها، ربما غلبها النوم ثانيةً.
عندما تلتف سارة على نفسها بهذا الشكل، تُشبه قبعة الفرو البيضاء، ويشعر برغبته في وضعها على رأسه... وسوف تلين رأسه بوضع سارة عليها، وينسى وسط هذا الدفء نصوص الدروس التي يحفظها منذ سنوات مضت... وكذلك عندما تنام القطة ملتفة على نفسها على هذا النحو، يتملكه النوم هو الآخر، فكان يرغب في أن يُدخل رأسه وسط بطنه ويلتف عليها، وينام حتى الذوبان داخل هذا اللين الدافئ دون الاستيقاظ أو النهوض على قدميه.
أمعن النظر في ظهر القطة الذي يرتفع وينخفض بلطف مع إيقاع نَفَسَها، وفكر لماذا الناس لا يتمتعون بالصبر والحكمة كهذه المخلوقات السامية؟ يُسرعون دائمًا نحو مكان ما، ويتصارعون للقيام بشيء ما... أليس مآل كل شيء هو السرير: مآل الشيخوخة، ومآل المرض؟!...
بعد ذلك تخيل أمام عينيه- وهو على السرير- أجداده وأخواله وأعمامه راثيًا إياهم... دبَّت في بدنه برودة غريبة تشبه الرجفة... نهض ووضع قدميه في الشبشب الذي تجمد من برودة الليل، وهرول للمطبخ مرتعدًا.
كانت الأواني الموجودة فوق الموقد فارغة... ربما كان هناك شيء ما ناقص لطهي الطعام، فعادت أمه من جديد للسوق، رفع أغطية الأواني الأخرى، ونظر فيها، ثم فتح غطاء الإناء الصغير الموجود فوق الطاولة. كانت هناك حمصتان فقط باقيتين من طعام الأمس في قاع الإناء كالحبيبين ينظران لبعضهما، ويسلطان نظريهما إليه.
خرج إلى الطُّرقة وذهب إلى الحمَّام؛ ذلك المكان الذي يذهب إليه يوميًّا وهو يشعر بالغثيان، ويُذيب فيه الصابون الأخضر بين راحة يديه، ولكن كان يحب أن يتمدد في البانيو الساخن؛ لأن الماء قبل كل شيء كان يغمره بحميمية غريبة، ويحنو على كل عضو من أعضاء بدنه، وكذلك لأنه يفقد وزنه في البانيو المملوء بالماء. وكان يشعر في نفسه أنه مخلوق غريب مثل الفقاعة... وهكذا كان يذوب كل جسمه وأعضائه وأعصابه وسط ليونة الماء، ويفكر وهو في استرخاء كامل أنه ليت المدينة مثل حوض الأسماك... فيفقد الجميع أوزانهم، ويبقى طافيًا وسط الماء مثل فقاعات الهواء الخفيف... وحينئذ كان سيذهب الجميع إلى السوق بأجسامهم عديمة الوزن كالفقاعات سابحين على سطح الماء... أما هو فكان سيمسك أمه من ظهرها، ويذهب بها إلى العمل، ومن هناك إلى السوق، ومن هناك إلى أماكن أخرى.
لم يُفتح باب الحمَّام... أمسك مقبض الباب بيديه الاثنتين، ودفعه بقوة. لم يُفتح الباب بعد، ما معنى هذا؟ كان الباب مغلقًا من الناحية الأخرى– من الداخل بالترباس.
أصاب شعر رأسه قشعريرة... كيف يمكن أن يحدث هذا؟ أليس في المنزل أحد غيره؟! من يمكن أن يدخل إلى الحمَّام؟!
دفع الباب هذه المرة بكل قوته، وبكتفه.
لم يفتح الباب بعد، أُغلق الباب من الداخل، عندما كان يتمدد في حجرته، ويغوص في أحلام حمقاء، دخل شخص ما من أحد أبواب المنزل ودخل الحمَّام... وأغلق الباب من الناحية الأخرى، وكان يكتم أنفاسه وهو ينتظر شيئًا ما، ولكن ماذا؟
لمعت عيناه من الدهشة... إذا كان هناك لص خلف الباب؛ فلماذا دخل هناك، وماذا كان ينتظر؟...
إنه لم يكن لص... علا جسده عرق بارد في لحظة بسبب هذا التفكير، وأمسك مقبض الباب، وأخذ يهزه بكل قوته، وقال وبدنه يرتعد بالكامل:
مَنْ هنا؟.. يا... يا !!!
على الرغم من أنه مستيقظ، فلم يلق جوابًا من أحد.. وكأن الصوت قد انقطع من الناحية الأخرى من الباب.
حينما أسند كتفه إلى الباب، وأراد أن يدفعه بكل قوته، توقف، وفكر أن الذي بالداخل ربما يكون مسلحًا، ربما يرتدي البنطالون، ويخرج أمام باب الشقة، ويدق باب الجيران، ويطلب منهم المساعدة... على الفور خطر بباله أن ذلك الشخص المجهول عندما يشعر بخروجه من المنزل، سوف يخرج من الحمَّام، ويغلق هذه المرة باب المنزل نفسه، ربما الهدف من اختبائه في الحمَّام هو ذلك... وهو على هذه الحال، دفع الباب مرة أخرى، ولكن بكل بدنه هذه المرة.
لقد استند إلى الباب بقوة من الداخل، ربما كتف من بالداخل لم يكن أضعف من كتفه هو، وكأن أحدًا عطس في الحجرة الأخرى... تنهد، وضغط على باب الحمَّام. وفي لمح البصر، خُيِّل إليه أن جميع الغرف، وكذلك الممر، مملوءة بالناس... خرت قواه... وكأن في معدته شيئًا ما قطع وينزف... وأصدرت جميع مواسير المياه بالمنزل في تلك اللحظة صوت دوي... كتم أنفاسه وسار نحو الجهة القادم منها صوت العطس بخطوات وئيدة. فتح حجرة الضيوف، وأطل منها بحذر... كان في الناحية اليمنى رجل ذو شارب يستند إلى الحائط وينظر إليه... وبرد فعل مفاجئ طرأ على ذهنه، أنه أنزل لكمة على وجه الرجل... حطمت يده شيئًا ما يشبه الزجاج، وجُرجت... ثم فتح النور.
لقد كسر زجاج الساعة القديمة التي تشبه رجلاً طويل القامة، والموجودة في ركن حجرة الضيوف!! ضغط على جُرح يده بكفه الآخر، ونظر إلى الساعة المُسلَّطة عليه من الركن بوجهتها المحطمة. أراد أن يجمع في كفه الزجاج المُحطم على الأرض، ويحمله للمطبخ، ولكنه تذكر من بالحمَّام، فعاد مسرعًا إلى الطُّرقة. كان باب الحمَّام على وضعه السابق...
وقف أمام الباب، وأخذ نَفَسًا عميقًا، كأن الخوف ذهب عنه بعد الضربة السابقة. كل ما فكر فيه، هو أن يذهب إلى المطبخ، ويأخذ بلطة اللحم، أمسكها بقبضة يده السليمة بقوة، وعاد إلى الباب، وفي لحظة ودون تفكير، وبمجرد أن ضرب البلطة على مقبض الباب بكل قوته، انشق الباب... فسقط هو والبلطة داخل الحمَّام... فاصطدمت ركبتاه بركن البانيو الحاد، وطارت البلطة من يده، فأصابت المرآة المعلقة على الحائط، فتصدعت المرآة... جلس لفترة في أرضية الحمَّام الباردة، واجتهد أن يفهم ماذا يحدث؟...
لم يكن أحد بالداخل! فماذا حدث إذًا؟
نهض على قدميه، وأراد أن يغلق الباب، فلم يستطع، انحنى ومدَّ تحت الباب أصابعه الرفيعة لكي يعرف ما الأمر، تعلقت يده بشيء تحت الباب، فأخرج قطعة خشبية صغيرة كانت تعوق فتح الباب وغلقه، ألقى بها جانبًا، وجلس بجانب البانيو، ووضع يديه على ركبتيه.
ما معنى هذا؟... هل أُصيب بالجنون، أم ماذا؟... بعد أن استيقظ، والأشياء العادية التي يراها في اليوم مائة مرة تتلاعب به، ما هذه الشعوذة؟
نهض ونظر إلى الكالون المكسور، وإلى تحطم المرآة، وإلى جُرح رُكبتيه... خرج من الحمَّام، وذهب إلى حجرة الضيوف جارًا شبشبه، وهناك نظر إلى الساعة القديمة "التي حطمها"، ولم يعرف أيضحك أم يبكي؟!
وضع يده الجريحة بجانبه، وعاد إلى حجرته، وتمدد على السرير، وضع رأسه تحت الوسادة، وكان يفكر أنه سوف تأتي أمه الآن من العمل، وسوف ترى الساعة، وكالون الحمَّام المكسور، والمرآة المحطمة، وسوف تغضب، وتتذمر...
أخرج رأسه من تحت الوسادة، ونظر إلى النافذة.
كان الجو غائمًا، وبعد قليل سوف يُضطر للنوم... ولكن كان لا يرغب في النوم ثانية... وُضع المفتاح في الباب... كانت أمه عائدة من العمل. أُغلق الباب، وأُضيئ ضوء الممر. ذهبت إلى المطبخ مُحدثة صوتًا بالأكياس التي بها المشتريات التي اشترتها، وعطست هناك. بعد ذلك مرت من أمام حجرته، ودخلت الحمَّام. استطاع أن يرى فقط ظهر أمه من زجاج النافذة، وعرف من ظهرها أنها منهكة، غسلت أمه يدها ووجهها في الحمَّام، وذهبت إلى حجرتها دون أي كلام. ربما لم ترَ الشرخ الموجود في المرآة، ولا الكالون المكسور... نهض وجلس، كانت ركبتاه تؤلمانه.
فكر ما هذه الحياة التي يعيشها؟ لماذا لا يعيش مثل الجميع؟ عندما يعمل الجميع، فإنه ينام، وعندما ينام الجميع، فهو ينظر إلى السقف، ما هذه الحالة التي وضع نفسه فيها؟
فكر ورغب في أن يذهب إلى حجرة أمه، ويروي لها ما حدث له آنفًا، ويقول لها إنه يُحبها جدًّا. ربما لأنه لم يخطر بباله مطلقًا اليوم أنه سوف يُظهر هذه "البطولات"، قطع يده، وجرح ركبتيه... ثم فكر إذا لم تصدقه أمه أو يتملكها الضحك لأنه يتشاجر مع الجدران في المنزل وحيدًا. حقًّا، أيجب عليها أن تضحك؟!
ثم فجأة شعر بالذعر. فكر أنه ربما أصيب بالجنون!
نهض على قدميه، وخرج إلى الممر بخطى حثيثة، ودون أن يضيء الأنوار هناك، وقف أمام مرآة الحائط، ونظر إلى بياض عينيه وحدقتيهما.
كل شيء على ما يرام...
وبالحذر نفسه، اتجه نحو حجرة أمه، وفتح الباب، أطل برأسه أولًا، ثم دخل بجسمه، فتسمر من المشهد الذي رآه...
نامت أمه... كانت تُسند رأسها إلى خشبة السرير، وتغط في نومها... أصابته غُصة في حلقه... لم يرَ أمه مطلقًا على هذه الحالة من الوهن والضعف... لم يتخيل مطلقًا أن أمه يمكن أن تتعب هكذا، وأنها تنام هكذا في المكان الذي تجلس فيه كالطفل الصغير... وضعت أمه يديها على ركبتيها ونامت... ممسكة بقبضة يدها اليمنى الجورب الذي خلعته من قدمها توًا. لقد خشن جلد راحة يدها وعلته التجاعيد، كان باطن أصابعها مليئًا بالنتوءات الصغيرة بسبب حمل الأشياء الثقيلة، وغسل الصحون والملابس...
وقف فترة عند عتبة الباب، وشاهد نوم أمه. كان يظهر شيء ما في نوم أمه، ومعنى غير عادٍى لا يستطيع أن يفهمه... ولكن مهما فكر فيه، لم يستطع أن يدركه... انكمش تحت أقدام أمه، وأمعن النظر فيها. وعند النظر من هذا الموضع، كانت أمه تشبه التماثيل القديمة في القرون الوسطى... أسند رأسه بهدوء إلى قدمي أمه، ولم يلبث حتى نام في المكان الذي يجلس فيه...
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.