قصة "آيسون"

لقد اعتل مزاجي عندما سمعتُ أن جارنا الجديد في المنزل الصيفي السيد "مهمان قولامداروف"، والذي يعمل مديرًا لإحدى الإدارات الزراعية الكبرى المختصة بالتصنيع الزراعي بوزارة الزراعة، قد دعانا بإصرار إلى منزله.

كان زوجي يعرف أن وجودي في محيط أناس لا أعرفهم، والمشاركة في تبادل الأنخاب، وأحاديث لا معنى لها تُساق من أجل البروتوكولات باسم الود المصطنع، يعتبر بالنسبة لي عذابًا، قال زوجي:

- لو لم تذهبي، سيقولون "لم يحترموننا"، وهذا شيء غير لائق مع الجيران!

سلط نظرة علي كأنني مذنبة، ففهمت أنه مستحيل التهرب من هذه الدعوة التي قدمها أصحاب المنزل الذين يشتاقون للتعرف عليّ عن قرب، خاصة أنني "جارتهم الكاتبة"، فسكتُ. كان السيد "مهمان قولامداروف" يبدو مسنًّا أكثر من سنه الحقيقي بعينيه الضخمتين المختبئتين خلف نظارته ذات العدسات الضخمة، وبشعره الأشيب الخفيف مع أن عمره ستون عامًا فقط. أما زوجته "ظريفة" فقد عملت في وقت ما ممرضة في إحدى القرى الجبلية، وبعد أن تزوجت وأنجبت ولدًا وعُين زوجها بالحكومة، أصابتها السمنة، وتثاقلت بسبب عدم الحركة ومن تناول الأطعمة الدسمة، ويرتفع ضغط الدم لديها بشكل مستمر. كان الاثنان يعيشان في منزل ذي ثلاثة طوابق يبعد عنا عدة منازل، تم الانتهاء من صيانته مؤخرًا، وتحت أشعة الشمس كان يُشع من سقفه المغطى بالقرميد الألوان البرتقالية. ويعيش هنا أيضًا أسرة صغيرة مكونة من زوجين متوسطي السن كانا قد اسمرت بشرتهما من العمل تحت الشمس، وكانا من أقارب السيدة "ظريفة" التي أحضرتهما بنفسها من قريتها الجبلية البعيدة ومعهما ابنهما الصغير. كان هؤلاء الناس من الكادحين الصامدين الذين يعيشون في كوخٍ كبيرٍ بعيد بعض الشيء عن عُش الطيور الموجود في الناحية الخلفية للمنزل، وعندما تشتد برودة الجو في الشتاء، ينتقل أصحاب المنزل إلى منزلهم الأصلي في المدينة، ويمكثون هناك، ويقضون يومهم في الانشغال بصيانة حديقة المنزل أو تنظيفه وعمل كل الأمور المتعلقة به.

لقد اكتشفتُ في الحال أن السيدة "ظريفة" هي التي أسلم عليها من حين لآخر وأتقابل معها أحيانًا عند شاطئ البحر أو في الطريق لمنزل المصيف، والتي تعترض طريقي بوجهها الذي تعلوه حُمرة من التوتر، وتظل تتفقد وجهي عن قرب شديد بكل تفاصيله ومسامه مُسلطة عينيها علي كالمتلذذ بشرب الخمر، وكأنها بذلك تتفقد أحوالي، وعندما عرفت أنها هي تلك المرأة، اعتل مزاجي تمامًا.

عرفتُ أن السيدة "زليخا" زوجة الأستاذ "سلمان" الجار الملاصق بنا مدعوة أيضًا للمأدبة؛ لذا استاء حالي تمامًا، فقد كانت السيدة "زليخا" تشبه الطيور البرية التي سأمت من حياة المنزل المملة لأنها تعيش طيلة السنة في منزل المصيف؛ حيث كانت تقضي أيامها المملة التي لا معنى لها هناك من خلال الاهتمام بالمعلومات المفصلة التي تحصل عليها حول "حياة " الأقارب وإبداعهم، وكانت كذلك تتلذذ بالحديث عن انطباعاتها في الاحتفالات التي شاركت فيها بصوتها الأوبرالي الذي به نبرة تعالٍ لا تتلاءم مع مظهرها. كلما فكرتُ بشأن سبل الخلاص من اهتمام السيدة "زليخا" المميت لي، تذكرتُ الأستاذ "سلمان" الذي يتبادل الأنخاب باستمرار بعد تذوق الخمر، ويقول الطُرفات، ثم يأخذ الربابة في صدره، ولا يمل من عزف الأغاني الشعبية القديمة، عندما تذكرتُ ذلك استراح قلبي بعض الشيء.

* * *

اقتربنا من البوابة المطلية بلون العقيق الأحمر الفاخر التي تتماشى مع أسقف منزل السيد "مهمان قولامداروف"، كان لا يُرى أحد في فناء المنزل. ويبدو من رائحة الدخان المتصاعد في الهواء من الناحية الخلفية للمنزل أن هناك أحدًا ما يشوي كبابًا دون أن يتحدث وبحركات حثيثة. وما إن وطأت أقدامنا فناء المنزل، إلا وسمعنا صوتًا عذبًا للسيد "سلمان" المليء بحب الحياة قادمًا من أحد طوابق المنزل العليا:

         مرحبًا بكم، حللتم أهلاً، ونزلتم سهلاً! أين أنتم منذ زمنٍ؟ لقد أصاب القلق الأخت "ظريفة". قلنا ربما انشغلت السيدة "سيفدا" (أي أنا) بأمر ما.

قبل أن يُنهي السيد "سلمان" كلامه، ظهر أمامنا السيد "مهمان قولامداروف" والسيدة "ظريفة" كأنهما خرجا من تحت الأرض. سلّم "مهمان قولامداروف" علينا بابتسامة خجولة وبأدب جم لا يتماشى مع وظيفته الجافة المتعلقة بالقرى والأراضي الزراعية، ثم تنحى جانبًا. تقدمت السيدة "ظريفة" للأمام وهي تهز أطراف ملابسها الطويلة المتلألئة تحت أشعة الشمس، وقالت وهي تحتضنني:

-        مرحبًا بكم! ...  ما أجملكم من أناس زرتمونا اليوم؟!

ثم سارت أمامنا متألقة في زينتها كخطى طالب خجول يتبختر في نشوة الحب حين يصل لهدفه، وذهبت بنا نحو المنزل من خلال طُرقة ضيقة ممتدة.

- منذ الصباح ونحن ننتظركم وأعيننا على الطريق. وقلنا: ألن يأتوا هذه المرة أيضًا؟

كان الأستاذ "سلمان" يقف ببدنه السمين عند مدخل الحجرة التي يُفتح بابها على طُرقة الطابق الثاني.

قال الأستاذ "سلمان":

-       حللتم أهلاً، ونزلتم سهلاً!

وصافح زوجي وقبَّله، وأشار لنا على رأس المائدة للجلوس.

وخلف مائدة مهيبة مليئة بالمُقَبِّلات المختلفة، والفواكه والمشروبات الموضوعة وسط الحجرة، جلس زوجان مسنان، بالإضافة إلى السيدة "زليخا" زوجة الأستاذ "سلمان"، وكذلك ثلاث سيدات بدينات في سنٍ واحدٍ يشبهن بعضهن بعضًا، وكذلك طفلة صغيرة سمينة. عندما رأونا نهضن على أقدامهن، وسلمنا عليهن وتعرفنا.

أشارت السيدة "ظريفة" من مكان ما خلفي وهي تتحدث بصعوبة إلى أحد الزوجين الجالسين بالقرب منا قائلة:

-       هذه صديقتي، أما هذا فهو زوجها. وهذا هو صديق الأستاذ "مهمان" في العمل، وهذه زوجته.

ثم قدَّمت السيدة "ظريفة" لي إحدى السيدات البدينات:

-       أما هذه فهي أختي.

وبحركة رشيقة غير متوقعة، احتضنتني هذه السيدة، وانهالت في تقبيلي.

ربما غضبت السيدة "ظريفة" التي أزعجت من حركة أختها هذه "التي لا محل لها من الإعراب"، واستدارت نحو السيدتين البدينتين الأخريين:

-       أما هاتان فهما ابنتاهما.

ثم اتجهت نحو الفتاة الصغيرة:

-       هذه هي حفيدتي، تريد أن تصبح في المستقبل كاتبة مثلك.

على الرغم من أنني لم أشعر بالارتياح من هذا القول للسيدة "ظريفة" فإنني لم أظهر هذا، وابتسمت ابتسامة بسيطة قائلة:

-       أحسنتِ!

بعد أن جلسنا في الأماكن المخصصة لنا على رأس المائدة، خيَّم على المكان هدوء مُحرج مليء بالحيرة، ثم هزَّ شخص صاحب المنزل – السيد "مهمان قولامداروف"، والذي كان يجلس على رأس المائدة من النهاية وشارد الذهن، فنهض على قدميه، وكان شاحب اللون، وقال بسرعة "مرحبًا بك"، شرب القدح المليء بالخمر في رشفة واحدة دون أن يتبادل الأنخاب مع أحدٍ، وجلس مكانه. بعد ذلك، نهض الأستاذ "سلمان" على قدميه كالمترقب، وتقدم للأمام، وهندم نفسه كالذي سيستل السيف من غمده، وأعلن نفسه أنه رئيس المأدبة، وبصوته الأجش، تحدث كثيرًا عن "مهمان قولامداروف"، تحدث عن قلبه الرقيق والحساس للغاية، ورعايته لأسرته المكافحة، وحسن رفقته، والاحترام والمكانة التي اكتسبها في الوزارة، وإنجازاته التي قام بها في المجال الزراعي، والتي لا مثيل لها.

كلما تكلم، كانت السيدة "ظريفة" تملأ أطباق الضيوف بالمقبلات بابتسامة سعيدة، ثم أشارت بعينيها الجاحظتين المليئة بالتوتر والقلق إلى المائدة، وقالت بصوت فتاة شابة:

- تم إعداد كل الأطعمة بالطريقة الفرنسية، أعرف أنكم تزورون أوروبا باستمرار، وتفضلون مثل هذه الأطعمة، تم طهيها من أجلكم خصيصًا.

ابتسمتُ دون أن أعرف بم أرد على كلامها هذا، ومع أنني مددتُ يدي لعنقود العنب المُلقى فوق تل الفاكهة، فقد لمست يدي في بداية الأمر قطعة كارتونية ذهبية اللون صغيرة معلقة بجانب إناء الفاكهة الصيني ذي الأرجل المرتفعة، ففهمتُ أن هذه هي بطاقة سعر الإناء. بعد ذلك رأيتُ أن نفس بطاقات السعر الذهبية هذه معلقة أيضًا بجانب الأواني البلورية والصينية الأخرى الموجود بها مختلف المُقبلات والسلطات والمخللات، فقلتُ حتى أُخفي دهشتي:

-       ما أجمل هذه الأواني!

نظرت السيدة "ظريفة" التي بدت عليها علامات البهجة من كلامي إلى الدولاب الزجاجي الموجود في الركن البعيد للحجرة، وقالت بخجل مُفعم بالغرور الخفي:

- لقد أحضرتُ كل هذا من الكتالوج الصيني.

رأيتُ المزهريات وأواني الفواكه والزجاجات المجمعة جنبًا إلى جنب على أرض الدولاب الطويل قد اصطفت ببطاقات السعر الذهبية مثل طاولة العرض بالمحلات.

وضعت السيدة "ظريفة" يدها فجأة على كتف الطفلة السمينة ذات الضفائر الطويلة التي تجلس بجوارها وتلتهم السلطة دون أن تأخذ نفسها، وقالت:

- حفيدتي... كم تنظم شعرًا جميلاً! أريد أن تلقي عليكم بعض أشعارها.

وقبل أن أتمكن من قول كلمة، توجهتْ للفتاة قائلة:

-    اقرأي يا بنيتي.

بلعت الفتاة ريقها، ونهضت على قدميها كالتي أخذت أمرًا من كلام السيدة "ظريفة"، وشبّكت يديها خلفها، وبدأت تلقي الشعر بصوتٍ مرتفع.

حل هدوء عابر، وأنصت الجميع للشعر.

كان الشعر إهداءً للسيدة "ظريفة"، عن جدة حبيبة التي لم تُقصر مطلقًا في حق الأمومة. كان هذا الشعر تكرارًا للأشعار حول الأم أو ربما هي ذاتها تلك الأشعار التي حفظها الجالسون على المائدة في وقت ما من إحدى الكتب المدرسية.

أنهت الطفلة الشعر، وجلستْ مكانها. صفق الجميع لها، ونظرتْ إلي.

- شعر جميل.

وعلى الرغم من أنني حاولتُ أن أُخفي عدم ارتياحي بشكل ما، فربما ظن الجميع أن الشعر لم ينل إعجابي بالقدر الكافي، وخيم هدوء مضطرب على المكان. تدخل السيد "سلمان" في الأمر مرة أخرى، فنهض على قدميه وشرب نخبًا على صحتي، وأجبر الجميع على النهوض لشرب هذا الكأس كنخب لي.

وبعد شرب الكأس الثاني، كأن لون "مهمان قولامداروف" عاد إلى طبيعته، وطابت شهيته بعض الشيء. وضع نظارته على عينيه، وكان يستخدم الشوكة والسكينة بهدوء، ويعبث في الأطعمة الموجودة في طبقه كأنه يبحث عن شيء ما صغير ودقيق.

بعد فترة، وصلت الجلسة إلى مرحلة "النشوة"؛ حيث كان الأستاذ "سلمان" لا ينهض بعد من أجل تبادل الأنخاب، بل كان يقول ما يريد وهو جالس في مكانه، ويتلكأ بالكلام أو يتحدث وهو في نشوة بالغة، وكانت السيدة "زُليخا" لا ترفع عينيها المليئتين بالود والاهتمام عني من الناحية الأخرى من المائدة، وتمضغ بأدب القطع الصغيرة التي وضعتها في فمها، وكانت تضرب أمثلة من أحد أعمال الكاتب "ربندرنات طاغور" التي كانت لا تستطيع تذّكر اسمه على الإطلاق، وكانت "مجموعة البدينات" تستمع إليها بدهشة، والرجال يتبادلون الأنخاب فيما بينهم ويلقون الطرائف، وعندما ينتهي الموضوع، كانوا يمدحون الأطعمة المرصوصة على المائدة.

كان "مهمان قولامداروف" الوحيد الذي لا يتكلم ولا يشارك في الحديث. كان يسلط عينيه المختبئتين خلف نظارته للمجهول، ويضع في فمه القطع التي يلتقطها بالشوكة، وعلى الرغم من أنه كان ينظر إلى المتحدثين وهو يمضغ الطعام على مضض، فكان يُحس أنه ينتبه بكل وجوده إلى الموسيقى المتسللة بهدوء من مصدر الموسيقى بالناحية الأخرى من الحجرة والتي لا يستمع لها أحد مطلقًا.

ركزت اهتمامي أنا أيضًا في الموسيقى المتسللة من بعيد بين هذا الضجيج الذي يعم الحجرة، والمسموعة في أجزاء معينة فقط من المائدة، فهمتُ أن هذه هي إحدى الأغاني الشهيرة المحفورة في الأذهان لمغنية البوب الشهيرة "آيسون" التي نالت محبة خاصة من جمهورها من الرجال بسبب ملابسها شبه العارية وحركاتها المثيرة.

         عندما بلغ المجلس أوجه، وتم إحضار الأرز للمائدة، نهض الأستاذ "سلمان" فجأة، وفتح يديه على مصراعيهما كالذي يستعد أن يحتضن شخصًا ما، وصاح قائلًا:

-       اعزفوا، سوف أرقص.

ومد يده، ورفع صوت الموسيقى، ووقف في منتصف الحجرة، وبدأ يرقص بحركات عديمة اللياقة تشبه رقص الدببة في السرك.

صفق الجميع، ونهض أحد الضيوف – صديق "مهمان قولامداروف"- وكان رجلاً سمينًا أيضًا، وشاركه في الرقص. وحاول الاثنان تحريك أقدامهما التي أثقلها الأكل والشرب بسرعة قدر المستطاع، ورقصا رقصة مختلفة لا تتناسب مع إيقاع الموسيقى. بعد فترة انضمت النساء أيضًا للرقص. أخذوا يرقصون كثيرًا بحركات لا تتماشى مع إيقاع الموسيقى رغبة منهم في هضم الأطعمة التي أكلوها... أما تركيزي فكان منصبًا على "مهمان قولامداروف" الذي كان يسند رأسه إلى إحدى يديه، ويتابع وكأنه يشاهد "الراقصين" من خلف عدسات نظارته السميكة، ولكنه في الأصل يطوف بخياله في أماكن بعيدة.

عندما انتهى الرقص، وعاد الجميع إلى أماكنهم وهم ينهجون، نهض هو على قدميه فجأة، وقال بوجهه الشاحب والكأس المليء بالخمر الذي يهتز في يده:

-       ترقصون منذ الصباح... ولكن هذا الجو غير مناسب للرقص.

قال ذلك، وصمت، وبعد ذلك كأنه ترنح في المكان الذي كان يقف فيه.

خيم سكوت مُحبط على المكان.

ترنح الأستاذ "سلمان" على المقعد، وأدخل يديه في جيب البنطال بعصبية، وقال:

-       أنا أيضًا أرقص باللغة الروسية!

وعلى الرغم من أنه ضحك بصوتٍ عالٍ، فلم يضحك معه أحد.

كان "مهمان قولامداروف" لا يزال واقفًا وفي يده كأس الخمر.... وبصوت ضعيف خافت كمريض استيقظ بعد عملية جراحية خطيرة، قال:

-       أريد أن أقول شيئًا.

نظر هذه المرة للجميع فردًا فردًا من خلف نظارته التي تبرق تحت الضوء الشديد للنجفة:

-       هيا، فلنشرب هذه الكؤوس في صحة "آيسون خانم"، نظر الجميع إلى بعضهم في حالة من الخجل.

فقال:

-       يغني مطربون كثيرون هذه الأغاني: الأتراك والفرنسيون والروس يغنونها... ولكن في الحقيقة لا يستطع أحد مطلقًا يغني هذه الأغنية.

قال ذلك، وصمت.

فقال أحدهم في الناحية الأخرى من المائدة:

-       حسنًا أنك تعرف هذا جيدًا.

نظر الرجال الموجودون على المائدة لبعضهم نظرات ذات مغزى، وضحكوا. وأضافت السيدة "ظريفة" لهذه الضحكات المُحرجة مُزاحًا قائلة:

-       أنتم تضحكون، ولكن ليس الموقف يدعو للفرح على الإطلاق.

قالت هذا، واستدارت للوراء، وأشارت إلى الأرفف الموجودة على الحائط، والتي وضعت عليها صورًا شبه عارية في أوضاع مختلفة لـ "آيسون"، فشعر الجميع بآثار لاذعة لألم خفي وقديم يتوهج داخل صوتها.

قال الأستاذ "سلمان":

-       يا بُني، لماذا تظلم نفسك كل هذا القدر؟ قل مشكلتك، فلنحلها! هذا ليس شراء أرض زراعية!

قال ذلك، ثم ضحك بشدة مرة ثانية ضحكًا مُصطنعًا، وعلى الرغم من أن الجميع قد انضم إليه في الضحك، فإن حال "مهمان قولامداروف" لم يتغير. شرب الكأس حتى المنتصف، وجلس مكانه، لم يستطع أن يُخفى وجهه الذي ينظر إليه الجميع، وقال فجأة:

- هل تعرفون أنها تريد أن ترحل وتهاجر من هنا؟ ... ثم نظر إلى الضيوف من خلف نظارته التي تلمع وتتلألأ من ضوء النجفة.

قال أحدهم من الناحية الأخرى للمائدة:

-       ماذا أصابنا؟

ضحك الجميع ثانية.

ارتشف "مهمان قولامداروف" كأسه بصعوبة، وقال بشكل جاد جدًّا هذه المرة:

-       أنتم تضحكون، ولكنها سترحل وتهاجر.

قال ذلك واستدار ونظر من النافذة وكأنه كان يُودع "آيسون" التي تستعد لركوب القطار، أو الطائرة هناك.

قال الأستاذ "سلمان" وهو يتململ مكانه:

-       إذا كانت ترحل الآن، فلترحل!

ثم نظر إلي لسبب ما، وواصل حديثه:

-       ما علاقتنا بهذا الأمر؟ ... فلننهض ونتوسل إليها، "أنتِ روحي، لا ترحلي".

ومن أجل أن تُلطف السيدة "ظريفة" هذا الجو، قالت:

-       لقد برد الأرز! ... لماذا توقفتم عن الأكل ؟!

قالت ذلك، ونهضت على قدميها، ووضعت الأرز في الأطباق في الحال، وواصلت كلامها:

-       أرسل هذا الأرز كهدية من إيران للسيد "مهمان"، من نوع الأرز الذي كان يأكل منه الشاه الإيراني "بهلوي" نفسه، يزرعونه هناك في مزارع خاصة.

فركت عينيها، وأضافت بنبرة استهجان قائلة:

-       يُزرع من أجل أناس بعينهم.

وضعت السيدة "ظريفة" الأرز في طبق زوجها، وجلست هي الأخرى، وبدأت الأكل مع الجميع.... لم يلمس "مهمان قولامداروف" الأرز. كان يُلاحظ أنه يُولي اهتمامًا للأغنية التي تتسلل لأذنيه بصوت في دقة الشعرة، وأنه ينسجم بكل كيانه مع الموسيقى والصوت.

وعندما قالت السيدة "ظريفة" التي سعت أن تصرف انتباه الضيوف عن زوجها "هل تشعرون برائحة الأرز؟". وعلى الرغم من أن الضيوف أجابوا في صوت واحدٍ "ممتاز"، فقد تبين جليًّا أن الجميع يُولي اهتمامه بصوت "آيسون" الذي يتلألأ كالوردة وسط صخب الأشواك والملاعق.

لم يتحدث "مهمان قولامداروف" مُطلقًا، ظل جالسًا معنا، وهو يتململ في اضطراب شارد الذهن في أماكن بعيدة، مستمعًا إلى صوت تبادل الأنخاب وللطرائف بصورة تدل على رفضه لكل شيء، وهو يخوض وسط ذلك المجهول.

         وبمجرد الانتهاء من شرب الشاي بعد الطعام، نهضنا مع الضيوف الآخرين، وخرجنا إلى الفناء للتوجه نحو منزلنا، شارك "مهمان قولامداروف" في توديع الضيوف، وإن كان بشكل رمزي بوصفه صاحب المنزل. ولكن لاحظ الجميع أنه ليس في وعيه، وأنه يلتفت كالحيوان الجريح الذي تلقى ضربة مميتة من مكان ما.

قالت السيدة "ظريفة" التي كانت تخجل من نهاية الجلسة المُحرجة وهي تودعنا عند الباب الخارجي للمنزل:

-       في الآونة الأخيرة، يُصاب بالتعب الشديد، وكذلك يشرب الخمر كثيرًا، وهو ممنوع عنه، هكذا يقول طبيبه.

 * * *

في اليوم التالي، سمعنا خبر تعرض السيد "مهمان قولامداروف" لحادث في سيارته وهو ذاهب للعمل أدى إلى موته. وطبقًا لما يقال، فإنه عندما كان يسير في الطريق في الصباح مبكرًا، اصطدم بسيارته التي كان يقودها بسرعة جنونية بأحد أعمدة الطريق السميكة، ومات بسبب أزمة قلبية مفاجئة. وطبقًا لقول الذين ذهبوا إلى مكان الحادث، وعلى الرغم من أن مُحرك السيارة الذي تدمر الجزء الأمامي منه قد تعطل تمامًا، فإن مُسجل السيارة كان يعمل؛ أما صوت المغنية، فكان يسري بصوتٍ غريب ومُخيف وسط المدينة النائمة وقت الشفق.

أخذوا جثمان "مهمان قولامداروف" للدفن من المنزل الصيفي. كان المتجهون للدفن يتحدثون عن أن هذا الرجل الخجول الذي كان وحيد والديه قد كافح طيلة حياته وسط المشقة والتعب، وأنه اضطر للزواج من السيدة "ظريفة" بنت عمه الذي مات في سن مبكرة، وذلك من أجل أن يكون سندًا لعائلة عمه التي لا عائل لهم، على الرغم من أنه كان طالبًا مميزًا منذ سن المدرسة. كما كانوا يتحدثون أيضًا عن تكبده مشقة طويلة منذ سنوات شبابه، رعايته أسرته وأقاربه المقربين بكل ما أُوتي من قوة، وعن الأعمال الخيرية التي كان يقوم بها لأهل القرية بعد تعينه في العمل الحكومي، وكذلك عن تواضعه الجم وطبيعته البسيطة رغم كل ما يقوم به من أعمال خيرية. كان الناس كلما يتحدثون عن هذه الأمور، كانت النساء تبكي، أما أنا فكنتُ أفكر بشأن "آيسون" مُغنية البوب ذات الحركات المثيرة التي تغير الرجال كالقفاز، وكيف أنها من بعيد أضلت هذا الشخص الذي حصل على كل شيء في هذه الدنيا، وقضت على حياته الزائفة الخالية من الحب...