قصة "العبقري"
أُهدي هذا العمل لأعضاء اتحاد الكُتَّاب
الذين رحلوا عن عالمنا، والذين يزالون
يخدمون بصدق الأدب العظيم قبل أن
يرحلوا عن عالمنا...
أخيرًا عرف العاملون بمركز "القلم الأدبي" قبل الجميع نبأ منح الشاعر شقة.
في مساء ذلك اليوم- أي مساء يوم الأربعاء الجليل- ظهر فجأة وبدون سابق إنذار "أحمد آغالابا"، أحد أوفياء المركز، والحاصل على جائزة "القلم الشاب"، في الطابق الأول للإدارة قرابة نهاية العمل... أولاً اقترب من "المطعم الصغير" الموجود في نهاية المدخل وهو يجر قدميه المُنهكتين خلفه، واستند إلى النافذة الصغيرة هناك، وبعد أن شرب في نَفَسٍ واحد ثلاثة أكواب من اللبن الرائب كالمسموم، صعد إلى الطابق الثاني إلى حجرة الرئيس يزف إليه بشرة منح الشاعر شقة.
كان بعض الناس يُفسرون السر في إذاعة هذا الخبر قرابة نهاية يوم العمل هو أن الإدارات الحكومية اعتقدت أنه من الأفضل إذاعة هذا الخبر قبيل المساء لأرباب الفن والأدب الذين يمثلون الفنانين العصبيين والمعجبين بالشاعر وأشعاره في الوقت الذي يخبو فيه حماسهم الإبداعي في النصف الثاني من اليوم، وتتعب أذهانهم المتيمة بالشعر الإبداعي ولأبياته الجذابة، وذلك لأن هذه الإدارات الحكومية كانت لا تستطيع توقُّع بما سينتهي به هذا الأمر.
أما الآخرون فيقولون إن الهدف الوحيد للدولة في إخفاء الخبر حتى ذلك المساء هو عمل نوع من المفاجأة على أعتاب ملتقى اتحاد الكُتَّاب للشاعر وللمعجبين بالشاعر. أما السبب الأساسي الذي جعل الإدارات الحكومية تفضل هذا هو – كما يقال – الزيادة المستمرة يومًا بعد يوم في الآونة الأخيرة لعدد الذين يعتبرون عيش أكبر شاعر للأمة في بلد بدون شقة تمليك يعتبر إهانة لهم.
وكانت الصحف تكتب: "لا يكل ولا يمل أرباب الأدب عن الحديث والكُتَّابة بهذا الشأن، وينضم القراء بالآلاف الذين يحبون الشاعر إلى هذه الموجة من السُّخط، وكأن هذه الموجة الخطيرة التي بدأت تشبه الثورة الشعبية لا تُقلق قيادة اتحاد الكُتَّاب، أو مسئولي الدولة...
كان جزء من أرباب الأدب يُرجعون هذه اللامبالاة من قِبَل المسئولين تجاه الشاعر إلى علاقته الحميمية بمسئولي السلطة السابقة، ولاسيما الرئيس السابق، وكما يُقال: لقد زادت بعض الشيء هذه اللامبالاة المُجحفة من قِبَل الدولة بعد قصيدة الحب التي نظمها الشاعر حول الرئيس السابق.
وكان نقاد الأدب يقولون حول هذه القصيدة: "هذه القصيدة نموذج أدبي رائع بغض النظر عن موضوع نظمها... ". وطبقًا لشريحة كبيرة من أرباب القلم المعارضين للدولة، والذين تحولت كراهيتهم للسلطة إلى محبة، إن ذلك الشعر خلخل تمامًا الركائز المعنوية للسُّلطة.
ووسط كل هذا السجال والعويل، كان هناك البعض يئن ويقول: "يقولون هذا كأنهم رأوا بأعينهم الركائز المعنوية للسلطة".
كان أقارب الشاعر يغضبون من هذا الكلام، ويهزون رؤوسهم اعتراضًا وسخطًا قائلين: "ما علاقته بالسياسة؟ ليس له حاجة للتدخل في السياسة، يتراشق بعضهم بعضًا بألسنتهم، لماذا يتراشقون، وعَلاَم يتراشقون ؟!... فأشعاره أسمى من كل السياسات!" ...
أما أعضاء اتحاد الكُتَّاب العدوانيين فكانوا يرون أن أكبر مذنب في التجاهل تجاه الشاعر في عدم منحه شقة منذ فترة طويلة يكمن في رئاسة اتحاد الكُتَّاب؛ لذلك كانوا باستمرار على صفحات الصحف وفي حواراتهم بالإذاعة والتلفاز يُطلقون على الاتحاد أنه اتحاد "عاجز"، "جامد"، "ميت".
وكما يُقال، أكثر شخص يعاني من هذا الموقف الصعب هو رئيس الاتحاد السيد "وفا" ذو القلب الرقيق، كان لا يُسمع لكلام السيد "وفا" رغم تبريراته وتفسيراته من خلال الكتابة أو الحوارات الصحفية مرارًا وتكرارًا بشأن أن الاتحاد بعد النظام الاستبدادي كأنه تحول إلى مؤسسة ديمقراطية بدولة مستقلة، وهو في الأصل تحول إلى وضع مُزرٍ. وكأنه كان يُتعمد عدم تصديقه. كانت حقيقة عدم امتلاك الشاعر شقة تُبخر في لمح البصر جميع الإيضاحات والتبريرات كقطرة الماء التي تختفي بأزيز مؤقت في المقلاة التي تغلي...
وكما يقول العاملون في الاتحاد، إن هذا الأمر بدأ مؤخرًا في التأثير سلبيًّا على صحة السيد "وفا"؛ فقد رآه البعض في الآونة الأخيرة أكثر من مرة ممددًا وحيدًا في حجرة مليئة بالأسرَّة الناعمة المغطاة بالجلد الصناعي من أجل إعطائه الأدوية المهدئة في الوريد بعيادة الاتحاد. وكما يُقال، كان يأتي إلى العمل في الصباح الباكر، ويدخل مكتبه، ويغلق الباب من الداخل بالقفل، ويتحدث بعدم اكتراث مع من يريدون مقابلته من خلال السكرتيرة، وتتضح جليًّا الرغبة في عدم مقابلة الجميع. وفي نهاية أيام العمل، يجدونه كالمعتاد واقفًا ومسلطًا عينيه المتعبتين إلى الحائط المواجه؛ أي إلى اللوحة الخشبية المحفور عليها توقيعات رواد الأدب القوميين الذين رحلوا عن دنيانا...
* * *
كان الشاعر يعيش في حالة فقرٍ مدقع؛ حيث يسكن في شقة إيجار متهالكة عبارة عن غرفة واحدة تشعُّ منها رائحة الرطوبة والعفن بإحدى الضواحي البعيدة عن المدينة، وهذا يُغضب- في المقام الأول- أرباب القلم بمركز "القلم الأدبي" ومدير المركز العصبي الناثر والكاتب المسرحي "قولام حسينلي" ... قبل عدة أيام من الخبر الذي جلبه "أحمد آغالابا" للمركز، رأى "قولام حسينلي" في منامه جنودًا كثيرة، وقد حاصرت الجنود مبنى المركز ذا الطابقين، ونظروا من النوافذ، وتعلو وجوهم الدهشة...
في صباح اليوم التالي للحلم، ذهب "قولام حسينلي" إلى العمل وهو شارد الذهن، ودعا صديق المهنة "فرج" ليأتي له، وعلى الرغم من أنه حكى له الحلم كما رآه في الليلة السابقة وهو شارد الذهن، فلم يستطع "فرج" تفسيره، وبعد أن أنصت إليه بدقة، غاص في التفكير لعدة لحظات، وهز حاجبيه بلونهما الرمادي كعادته كالذي مسَّه تيار كهربائي فجأة، ورغم أنه قال: "هذا انقلاب على الدولة"، فإن "قولام حسينلي" لم يستطع أن يميز من عينيه الخبيثتين هل ما قيل هو اقتناع حقيقي لـ "فرج"، أم هو مجرد مزاح ثقيل جديد له؟
عندما أطل "أحمد آغالابا" من باب المكتب بلهفة قرابة نهاية وقت العمل، تذكر "قولام حسينلي" حلمه تلك الليلة، فتمالك نفسه، واستمع إلى "آغالابا" بصبر لا يتماشى مع طبيعته إلى النهاية.
أستاذ "قولام": "أخيرًا منحوا الشاعر شقة!" ...
قال "آغالابا" هذا وكأنه تململ في مكانه.
اغرورقت عينا "قولام حسينلي" في الحال جراء هذا الخبر المفاجئ، وتراقص أمام عينيه وجه الشاعر الأنيق... وقد سلط الشاعر عينيه الصغيرتين البُنيتين المليئتين بالعذاب والحزن، وقال بسخريته اللاذعة المعهودة:
- لا تقلق يا "قولي"، وقع مثل هذا عبر التاريخ، يسلخون جلد الشاعر، ويُزينون صدره بالرصاص.
ثم ترنح بمشيته البطيئة، وابتعد وغاب عن الأنظار.
... قيل إن الرئيس بنفسه هو الذي منحه الشقة!
يقال إنه في نهاية اللقاء، عندما نهض الجميع وبدأوا في الانصراف، وعند انصراف الرئيس، توقف فجأة، واستدار للخلف، ورفع يده اليسرى، وأوقف الناس عند الباب بعدما بدأوا في الخروج من القاعة، يُقال– لا أعرف أكان ذلك كذبًا أم حقيقة– إن الرئيس قال مصراعًا من أشعار الشاعر من ذاكرته.
قال "آغالابا" الذي ازرق من الهول أو من البرد كل هذا في نفس واحد.
- من قال لك هذا؟...
كان "دنيز" الذي دخل الحجرة في وقت ما جالسًا في مكانه المعتاد؛ أي على المقعد الموجود بجوار النافذة، وكان يتحدث وهو ينظر إلى الخارج ويداه تحت إبطيه، وكأن هذا الكلام الذي قاله كان موجهًا للمدينة أو للفراغ.
- "قايا قاراييل"!
هز "قولام حسينلي" كتفيه بعصبيه وهو شارد الذهن:
- ما دخل "قايا قاراييل" في هذا الأمر؟...
- لقد تقابلت معه في نهاية شارع "الاستقلال"، كان في شدة التوتر! ... لم أره مطلقًا بهذا الشكل. كان يتكلم بصوت مرتعش.
خيم هدوء حذر على الحجرة بعد هذا الكلام الذي قاله "آغالابا". سلط كل واحد منهم عينيه في مكان، وغاص في التفكير. فُتح الباب قليلاً.
سار "فرج" نحو ركن الحجرة البعيد بخطوات صغيرة وصامتة تتماشى مع الجو العام للحجرة، وجلس في جانب المقعد الكبير ذي المسند الطويل.
- هو قال بنفسه، لم أسأله شيئًا مطلقًا.
قال إنهم اتصلوا به ليلة أمس بالشقة، ودعوه للمجيء إلى رئاسة الجمهورية بشكل عاجل، وهناك طلبوا منه أن يكتب شيئًا وما يشبه الالتماس بشأن الشاعر.
قطع "آغالابا" كلامه هناك، واستدار ونظر إلى العاملين بالمركز الذين دخلوا الحجرة وملأوا جميع الأركان.
كان "قولام حسينلي" شارد الذهن مسلطًا نظره لنقطة مجهولة، و"دنيز" ينظر من النافذة إلى الخارج واضعًا يديه تحت إبطيه، و"فرج" مسلطًا نظره في كعب حذائه الموجه لأنوف الجميع بسبب أنه كان يضع قدمًا على قدم، والشاعر "آصلان أوغلو" رئيس تحرير مجلة "فيوضات الجديدة" ينظر إلى علبة الكبريت الفارغة التي يلعب بها في يده، وكان الباقون يسلطون أعينهم أيضًا على "قولام حسينلي" تعلو وجوهم تعبيرات استفهامية...
قال "آصلان أوغلو" صائحًا فجأة وهو يهز رأسه، وينظر إلى وجوه الباقين:
- نعم، الآن لا يمكن الوقوف أمام "قايا قاراييل" بعد ذلك. سيقول أنا الذي جعلتهم يمنحون الشاعر شقة.
رن جرس الهاتف في تلك اللحظة، كان في الناحية الأخرى على الهاتف يُسمع صوت "قايا قاراييل"، تحدث "قاراييل" صائحًا في نَفَسٍ واحد كالمعتاد عن الالتماس الذي كتبه بشأن الشاعر وأشعاره في رئاسة الجمهورية في وقت متأخر من ليلة أمس، ووضع السامعة دون أن ينتظر ردًّا، أو انقطع الاتصال؟...
ظل "قولام حسينلي" مدة ممسكًا بالسَّماعة في يده، ثم وضعها مكانها، وقال وهو شارد الذهن:
- يقول: منحوه الشقة بعد التماسه.
قال أحد من أقصى الحجرة:
- ماذا يقول؟...
قال "قولام حسينلي" متضايقًا من حيرة هذا التخبط:
- يقول: بعد أن اطلعوا على الالتماس، ظهرت تلك المسألة، يقصد مسألة شقة الشاعر.
بصفة عامة، كانت مثل هذه الأمور المشوشة والغموض غير المنطقي، وهذه التخبطات تُغضبه دائمًا. كان "قولام حسينلي" هكذا أيضًا في أعماله النثرية، وكان القارئ ينتظر في جميع أعماله الفنية وفي عباراته وجمله مثل هذا الوضوح، والسلاسة المنطقية. وكذلك كان النقاد عندما يُحللون إبداع "قولام حسينلي"، كانوا في المقام الأول، يستندون إلى المنطق الصريح، وأسلوبه الإبداعي البسيط الموجود بنثره.
أُضيء شيء ما في أعماق عيني "أصلان أوغلو" وانطفأ، وصاح وهو ينظر إلى الموجودين:
- ماذا كنت أقول؟ أرأيتم؟...
قال "قولام حسينلي"، وهو يمسح وجهه ودون أن ينظر إلى "أصلان أوغلو":
- بالله عليك، تحدث بهدوء، على أي حال نحن نموت.
... بعد أن حلَّ المساء، وانصرف العاملون بالمركز الذين كانوا قد تجمعوا فرحًا بخبر منح الشاعر شقة، بقي "فرج" وحده في حجرة رئيس الاتحاد كما في الحالات الطارئة، كأن الظلام بدأ يُخيم على حجرة "قولام حسينلي" المليئة باللمبات المضيئة.
قال "فرج" باحثًا بعينيه الصغيرتين بين الأمواج الرمادية لدخان الليل:
- من الممكن ان يكون لهذا الأمر عدة احتمالات: الاحتمال الأول أنه من خلال هذه اللفتة غير المتوقعة، وبهذه الخطوة التي قام بها تجاه شخص معارض لك من حيث الاعتقاد والمذهب، يريد الرئيس فقط أن يظل في التاريخ، أو بمعنى أصح، يريد أن يبقى في التاريخ مثل الملك العادل الذي يُهيئ الظروف لمعيشة شاعر الأمة.
قال "فرج" هذا، ونظر لـ "قولام حسينلي" خلسة، وعرف هل يُنصت له أم لا، وواصل كلامه:
- من الممكن أن أشعار الشاعر هزت بالفعل مشاعر الرئيس المتيم بالشعر بصفة عامة، وأنه قام بهذا من أجل الأدب العظيم، دون الحاجة إلى تفسير آخر. أما الاحتمال الآخر...
... في تلك اللحظة رن هاتف "قولام حسينلي" الذي كاد ينقض عليه بجسمه كله. سُمع صوت "دنيز" المتوتر من الطرف الآخر للهاتف:
- أعتقد أن الاحتمال الوحيد هو أنه تولدت لدى الرئيس حاجة لمحبة الشاعر.
قال "دنيز" هذا وهو ينهج بشكل غريب من الطرف الآخر للهاتف، ثم قال بعض الأشياء بشأن محبة الفنان، وودعه بسرعة، وأنهى المكالمة.
ضغط "فرج" ثلاثة من أصابعه الصغيرة في كفه قائلاً:
- ... أما الاحتمال الثالث .... فإنه على علمٍ بقيمة الكلام الإبداعي!
قاطع "قولام حسينلي" كلام "فرج" فجأة، وتهلل وجهه قائلاً:
- هذا يعني أنه يفهم كل شيء.
شعر "فرج" بنبضة غريبة في قلبه، إما بسبب التغير المفاجئ في وجه "قولام"، أو لسبب آخر، ومشطت شعره للخلف بيديه الصغيرتين قائلاً:
- بالتأكيد! ... يفهم كل شيء بالتأكيد. أنا كنت أقول دائمًا، وأكرر، ربما أكبر كاتب هو ذاته.
قال "قولام حسينلي" هذه المرة، وكأنه يُحدث نفسه شاعرًا بغُصةٍ في حلقه:
- هذا يعني أنه يفهم كل شيء.
في مثل هذه الحالات، أي عندما يتأثر ويحزن "قولام حسينلي" لسبب ما، فإن ضيق صدر صديق الطفولة ذي القلب الشجاع هذا ومؤلف العديد من الأعمال الفنية يُزعج "فرج" الذي يُحبه حبًّا جمًّا، بسبب هذا الضيق الذي يعاني منه صديقه. ولكن الحالة التي عليها صديقه هذه المرة تؤلم "فرج" الذي يحب الأدب حبه للحياة. وكان أكثر ما يضايق ويؤلم قلب "فرج" هذه المرة أن "قولام حسينلي" ذلك الرجل المهيب ذي الحادي والعشرين عامًا يشبه الطفل العاجز اليتيم...
* * *
كان "قولام حسينلي" يجلس طيلة المساء على المقعد المواجه للتلفاز في منزله الوحيد ذي الحجرة الواحدة، ويغلبه النعاس، ويفكر في الاحتمالات التي عدها "فرج" قبل ذلك وهو يضغط أصابعه الصغيرة واحدًا واحدًا في كفه كالذي يضغط على زر، وكان لا يعرف أن يتوقف عند أي هذه الاحتمالات التي تسبق الأخرى، وتقول "الصحيح هو أنا". أما الشيء المحدد والواضح هو أن ثمة أسبابًا سرية أخرى لا تشملها هذه الاحتمالات والبدائل بالنسبة لمنح الرئيس شقة للشاعر وهو الذي يسب السلطة وسياسة الرئيس الصبيانية في الصحافة المحلية ليل نهار، وفي الإذاعات الأجنبية...
بعد فترة، غلب النعاس "قولام حسينلي"، وهو جالس على مقعده أمام التلفاز، وبدأ يرى في هذه الغفوة "فرجًا"...
أمعن "فرج" النظر فيه قائلاً:
- أكبر أعماله الفنية هو نحن!.
وفي اليوم التالي، حدث هرج ومرج في الأوساط الأدبية، وفي رئاسة تحرير الجرائد والمجلات، وجمعيات الإبداع. كان موضوع شقة الشاعر "يُلاك" في كل مكان، وتُتبادل على شرفه "الأنخاب"، وتُعد التهاني لترسل للصحف، وتُرسل تلغرافات الشكر للرئيس... ويُقال إن مجموعة من الأدباء المتأثرين بهذا الحدث أرسلوا للرئيس برقية شكر من ثلاث وعشرين صفحة تتحدث عن قوة تأثير الكلمة الإبداعية والتغيرات والتناقضات التي يمكن أن تُحدثها الكلمة في القلوب والوعي، وأخيرًا عن القوة المادية للكلمة في قدرة تغير الأحداث.
أما المعجبون بالشاعر، فيُقال إنهم قاموا بزيارة ضريح أحد شعراء القرون الوسطى بوصفه رمزًا لانتصار الشعر والفن، وأقاموا هناك احتفالية شعرية، وألقوا بعض أبيات من الشاعر الحالي، ووضعوا باقات الورود والزهور فوق ضريح الشاعر الفقيد.
كما يُقال، تجمع مجموعة من رفاق الدرب للشاعر، وبالرغم من أنهم ذهبوا إلى منزله المتهالك ذي الغرفة الواحدة الذي يقع في إحدى الضواحي البعيدة عن العاصمة من أجل تهنئته، فقد وجدوا الشاعر هناك بدلاً من أن يكون فرحًا بهذا الخبر وفي قمة السعادة، كان في ركن مظلم بالمنزل في حالة سأم من الدنيا ووجهه للحائط.
قيل إن الشاعر رأى رفاق الدرب، فنهض على قدميه، وسار نحوهم ساحبًا بصعوبة قدميه اللتين تورمتا وتيبسنا بسبب عدم الحركة جراء ضيق المنزل، وقال ووجهه يعلوه تعبير كأنه مذنب ناظرًا في عين رفاقه في دهشة:
- هو الذي منحه، كنتُ لا أريد.
لقد تحول نبأ منح الرئيس شقة للشاعر الذي يدعم المعارضة بشكل صريح، بالإضافة إلى قوله مصراعًا من أشعاره إلى حديث الساعة، وتجاوز حدود الأوساط الأدبية، وانتشر في الأوساط الأخرى... كان أحد تفسيرات الخبر هو أن منح الرئيس شقة للشاعر "في المكان الذي يقطنه" سياسة لجمع الأصوات لنفسه قبيل الانتخابات؛ أي جمع غفير من معجبي الشاعر، بالإضافة إلى الأحزاب المعارضة المحبة للشاعر داخل الأوساط الأدبية. والاحتمال الآخر هو أن منح الرئيس شقة للشاعر يعتبر خطوة بعيدة النظر تم اتخاذها من أجل اللوحة-القصائد الشعرية التي سينظمها الشاعر في وقت ما بشأن الرئيس كما نظم الشاعر من قبل شعرًا للرئيس السابق.
إن اكتساب الرئيس السابق– عالم اللغويات الذي اعتلى سدَّة الحكم دون توقع أو حتى كما يُقال دون رغبة منه شخصية– شهرة أسطورية وهو على قيد الحياة بعد تلك القصيدة، وتعلق آلاف القلوب به لم يكن أمرًا عاديًّا، يبدو أنه لهذا السبب بالذات حاز اهتمام الرئيس. والآن لو كان الشاعر قد رسم صورة شاعرية بفنه الرفيع للرئيس؛ ذلك القائد الحكيم الذي وُلد للحكم ومستعد كل لحظة بالتضحية بروحه في سبيل الوطن، سيبقى هو شخصية أسطورية أبدية في ذاكرة التاريخ.
* * *
... في مساء أحد أيام الخريف ذات الرياح الباردة والأوراق المتساقطة، حينما كان "قولام حسينلي" عائدًا من العمل وهو لا يزال غارقًا في بحر الاحتمالات، قابل شخصًا عند أحد التقاطعات المظلمة:
- آه، يا عزيزي...
إنّ الرجل الذي قابله بصوت ضعيف، وكأنه قرّب رأسه لصدره حتى لا يُرى وجهه، وكأنه كان واقفًا في هذا التقاطع منذ فترة ينتظر مجيئه.
- كنتُ أعرف... كنت أعرف دائمًا أنك أشرفنا، ها أنت يا قولي...
عرفه "قولام حسينلي" من لهجته العذبة أنه "صلاح صاريزاده" ذو الشعر الأبيض الذي قضى كل عمره وإبداعه في كتابة روايات ضخمة حول المصير التعيس للنفط الأسود، وعن المصير المؤلم للعمال البسطاء الملطخة أياديهم بالنفط.
- يعني أن كل شيء كان سدًى... كل شيء كان كذبًا... حتى الأدب...
وهنا ابتعد صوت الكاتب المسن إلى اتجاه ما واختفى، ثم سُمع من بعيد يقول:
- ... الأدب العظيم الذي أبدعناه بدمنا وروحنا... الأدب الذي أفنينا فيه عمرنا... لم يكن يلزم أحدًا على الإطلاق، يا قولي...
كان "صاريزاده" يتحدث قريبًا جدًّا من صدر "قولام حسينلي"، وكأنه لم يكن لديه قدرة أو قوة للابتعاد عنه والوقوف بحرية.
ابتعد عنه جسم الكاتب المسن الواهي قدر الإمكان، ونظر إلى وجهه:
- لماذا تقول هكذا يا أستاذ صلاح؟ لماذا لا احتياج له؟...
- لا احتياج له، لا احتياج له، لو كانت له أهمية، أو يعرف قدر قيمة الأدب، كان لا يفعل هكذا.
قال المسن هذا بصوت مرتجف، ثم انكمش وجهه من الغصة التي تصل لحلقه مثل الطفل الغاضب.
- ماذا عملوا يا أستاذ "صلاح"؟...
- أنا كاتب على مدار اثنين وخمسين عامًا، ومؤلف لاثنتين وثلاثين رواية، ولمائة وأربع عشرة قصة، وأحد مصابي الحرب الوطنية العظمى()، وجندي مسلح كرّس عمره كله في خدمة الأدب... في حين أنني أعيش في منزل جماعي منذ سنوات طويلة في إحدى الضواحي النائية بالمدينة، وهؤلاء يوزعون المنازل على الذي عنده منزلان أو ثلاثة...
تحير "قولام حسينلي" من هذا الكلام لـ"صلاح صاريزاده"، ووضع ذراعه على كتف الكاتب العظيم المعروف في عالم الأدب بطبيعته النبيلة والخيّرة:
- تقصد من يا أستاذ "صلاح"؟... إذا كنت تقصد "الشاعر"، فهو مسكين...
- شاعر ماذا، يا حبيبي؟... اتصلوا حالاً، وقالوا إن الرئيس وزَّع منازل على جميع أعضاء مجلس الحكماء بمناسبة انعقاد المنتدى...
همَّ "قولام حسينلي"، وكان يريد أن يسأل كيف وصل له هذا الخبر، ولكن "صاريزاده" استدار وقال شيئًا بشأن مجلس الحكماء، وسار نحو الناحية الأخرى من الطريق وهو يجرجر حذاءه المنحول الكعب، ثم قال من تلك الناحية:
- ألَّفتُ رواية جديدة... سوف أرسلها لك... وهي كذلك حول البترول!
قال ذلك، وغاب عن الأنظار.
... عندما عاد "قولام حسينلي" إلى المنزل، كانوا يُذيعون اللقاء الذي عُقد مع الكُتَّاب قبيل المنتدى من القصر الرئاسي.
... لم يدخل الرئيس هذه المرة كالمعتاد من باب الدخول ذي الجانبين لقاعة الاجتماعات، بل من الناحية الخلفية من مكان ما؛ أي من إحدى الجدران الملاصقة بعضها ببعض. وقف بهيئته المهيبة أمام العلم القومي ثلاثي الألوان() لمدة، وكأنه انتظر شيئًا، ثم جلس مكانه الموجود على رأس الطاولة المستديرة بحجم القاعة نفسها، كالذي تلقى أمرًا لا تستطيع سماعه الأُذن العادية، وبوجهه الوردي، وبسواد عينيه ذواتي الرمادي الفاتح المختلف بعض الشيء عن بياضها استعرض الموجودين حوله، وابتسم وهو يقول شيئًا ما.
جلس الكُتَّاب المسنون لسبب ما في الناحية اليمنى للطاولة الضخمة، وكانوا ينظرون للرئيس ويعلو وجوههم امتنان، وفي الوقت نفسه ابتسامة قلقة.
كان الرئيس يتحدث وهو ينظر إلى يده المُشبكة فوق المنضدة. ولسبب ما، اعتقد "قولام حسينلي" أن الرئيس كان ينظر إلى يده، وكذلك كأنه ينظر إلى الجالسين في القاعة.
... بعد فترة، بدأت الكاميرا في إظهار وجوه الأدباء الكبار واحدًا واحدًا في صورة مكبرة، وبشكل لا إرادي كتم "قولام حسينلي" نفسه.
كاد قلب "قولام حسينلي" يتوقف في مكانه الذي يجلس فيه بسبب التغير غير المفهوم الذي يعلو وجوه هؤلاء المبدعين الذين يعرفهم منذ سنوات طويلة...
كان شاعر الشعب العظيم الذي يجلس في بداية الطاولة "كوسكون" يشبه كاتب الشعب الذي يجلس بجواره "طارى ويردييف"، وكان "طارى ويردييف" يشبه الكاتب المسرحي والناثر الذي يجلس بعده بمقعدين ووجهه يشبه المرآة المخادعة "صومباتلي"، وكان "صومباتلي" يشبه شاعر الشعب الذي يجلس على المقعد الأخير "آتيلا ذردوشت"، أما "آتيلا ذردوشت" فمن الغريب أنه كان يشبه "صاريزاده" الغاضب الذي قابله منذ قليل في الشارع- في التقاطع المظلم...
لم يمضِ الكثير حتى اتجه شاعر الشعب "كوسكون" نحو المنصة المخصصة لإلقاء الكلمات التي تشبه المسمار الضخم الموضوع في الجزء الأمامي للقاعة وهو يجر قدميه، فأسند ذراعيه المنحنيين على الحائل، وبدأ بوجهه الذي يعلوه الشيب في الحديث عن الإنجازات التي أحرزتها الدولة في السنوات الأخيرة، ومؤشرات ارتفاع إنتاج البترول، وعن سياستها الخارجية الناجحة. وفي تلك اللحظة، رن جرس الهاتف الموجود فوق الدولاب الملاصق لمقعد "قولام حسينلي".
- يا أستاذ "قولام"! ...
كان على الخط الآخر في الهاتف "أحمد آغابالا" يصيح كأنه يتكلم من جزيرة تغشاها ريح عاتية وعواصف تخلع الجبال الرواسي من مكانها...
- ألديك علم بما حدث؟
كان صوت "أحمد" يختفي من حين إلى آخر، وكأن زبد البحر يتصاعد ويملأ خط الهاتف...
أمسك "قولام حسينلي" ميكرفون السماعة بيده، وصاح بكل قوته:
- تكلم بصوت عالٍ، لا أسمعك جيدًا! ...
- لقد مات الشاعر "كوسكون"! ...
- "كوسكون"! ...
شعر "قولام حسينلي" وهو ينظر إلى "كوسكون" الذي لا يزال يتحدث عن السياسة الخارجية بوجهه الذي يعلوه الشيب في الشاشة أنه مر من جسمه شيء ما يشبه التيار، فقال:
- ماذا؟! هل جننت؟! ... الرجل هذا، يتحدث...
- هذا تسجيل فيديو! ... انتهى اللقاء الساعة السادسة! ... لقد مات "كوسكون" هناك أي في مصعد رئاسة الجمهورية! ... يُقال إنه فجأة خرَّ على الأرض في المكان الذي كان يقف فيه...
انقطع صوت "آغالابا" لفترة، ثم بدأ العودة مرة أخرى:
- ... في البداية اعتقدوا أنه أُغمي عليه، فبعد أن جاءت الإسعاف، ربطوا وجهه... رأيته بنفسي! ...
تحدث "آغابالا" عن عجائب أخرى حدثت بعد اللقاء مع الرئيس، وهو يصيح لمدة وأمواج البحر المجهولة تُبلل أسلاك الهاتف... وكأنه يغسل الهاتف، وطبقًا لما قاله "آغالابا"، ساءت حالة بعض المسنين بعد اللقاء على هذا النحو، وتم إيداع بعضهم في مستشفيات المدينة بأمر شخصي من الرئيس.
توقف نبض كاتب الشعب "نعمت أوزل" الذي حصلت أعماله الأدبية التي تتحدث عن الكارثة القومية على جائزة الدولة مرتين في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وذلك بسبب الأزمة القلبية التي أصابته في إحدى طُرقات رئاسة الجمهورية، وتم نقله في سيارة الإسعاف مباشرة إلى مستشفى جراحة القلب. وطبقًا لما يقوله "آغالابا"، فإن حالة الآخرين لا تسر القلب.
صدر صوت أجش لـ "آغالابا":
- ... لا يوجد مكان للتحرك من كثرة سيارات الإسعاف أمام رئاسة الجمهورية! ...
نفد صبر "قولام حسينلي" فجأة قائلاً:
- من أين تتحدث، لا أستطيع أن أفهم؟...
صاح "آغالابا" بصوت مجنون:
- من هنا، من تحت منزلكم! ...
أصابت أُذنا "قولام حسينلي" طنينًا لمدة بعد أن وضع السماعة، وجفَّ ريقه من هول المنظر الذي رسمته تصورات "آغالابا".
إن امتلاء سيارات الإسعاف بالفنانين المسنين وإخراجهم من مبنى الرئاسة على نقالات كالجنود المصابين في حرب ضروس ولّد لديه الشعور بنهاية الدنيا التي سوف يموت فيها الناس عند سماع صوت النفخة كما ورد في الكتب السماوية المقدسة.
كانت حالة المسنين الذين ظهروا في الشاشة جيدة. كانوا يقومون واحدًا واحدًا على أقدامهم، ويسيرون نحو المنصة بوجوههم الشاحبة، ومن هناك يُلقون خطابات مختلفة حول بناء الدولة، والسياسة الزراعية، والمؤشرات الاقتصادية، وبعد أن يُنهوا خطبهم، يتركون المنصة، ويعودون إلى أماكنهم بخطى حثيثة، وتبدو وجوههم شاحبة من جديد.
... أما في نهاية اللقاء عندما نهض المسنون على أقدامهم، وبدأوا الخروج من قاعة الاجتماع، استداروا نحو الرئيس الذي توقف فجأة وهو يخرج من الباب الموجود في بداية القاعة، والذي استدار ورفع يده اليسرى لأعلى قائلاً:
- "انتظروا دقيقة!" ...
انتظر الرئيس لحظات، وهناك عند باب القاعة أصدر محافظ المدينة، ودون أي شرح أو توضيح، أوامره بشأن تخصيص شقة ذي أربع غرف في مكان بوسط المدينة لكل واحد من الفنانين المسنين الذين شاركوا في اللقاء، ثم قال بيت شعر لأحد شعراء الشعب المشاركين في اللقاء، وترك القاعة...
لم يستطع "قولام حسينلي" النوم الليلة بأكملها... ولم يغب من أمام عينيه مبنى رئاسة الجمهورية الذي كان يضجُّ بسيارات الإسعاف، وحديث الرئيس ذي الوجه الوردي ناظرًا إلى يديه، والكُتَّاب الذين كانت وجوههم تُشِعُّ سعادة زائفة وذعرًا... وفي النهاية غلب النوم على "قولام حسينلي" قرب الصباح، وقد شاهد تكملة كل هذا في منامه... كان هناك في المنام رفاق الدرب الذين رحلوا عن الحياة قبل عدة سنوات مثل "محمد يار" الذي انتحر معلقًا نفسه بالفوطة بسبب الفقر، و"سيد مبرزا" الذي تسمم ودمر كبده بسبب شرب الخمر الرخيص، و"صور خاي" الذي توقف قلبه في المكان الذي ينام فيه بسبب شدة الفقر والعوز، و"إلبروس" الذي أصيب بجلطة في المخ بسبب صراخه.... كان العاملون بالرئاسة يشاركون ويحملون المسنين المتعبين على النقالات... سمع "قولام حسينلي" أيضًا في المنام – وهو يشاهد هذا الهول – الكلمات الأخيرة التي قالها "أحمد آغالابا" صارخًا من كشك التلفونات وحيدًا في الجزيرة الصغيرة الموجودة وسط البحر الهائج العاصف... وشعر في المنام أيضًا بأن شعر رأسه انتصب كشوك القنفذ...
تردد صدى صوت "آغالابا" لمدة طويلة في المنام وهو يقول: "بـ -فـ -عل – ل – ل هذا من أجل الأدب العظيم! ... من أجل – ل – ل الأدب العظيم! ...
... لقد هزَّ الأوساط الأدبية أيضًا في اليوم التالي نبأ منح الرئيس منازل للكُتَّاب المسنين، وكذلك موجة الأخبار العجيبة الأخرى المتعلقة بالتدهور المفاجئ في الحالة الصحية للكُتَّاب المسنين... تم تأجيل موعد مراسم دفن شاعر الشعب "كوسكون" ثلاثة أيام بقرار من اللجنة الحكومية للدفن إلى صباح اليوم الذي سيُنهي منتدى اتحاد الكُتَّاب أعماله.
ويُقال إن كاتب الشعب "نعمت أوزل" بعد لقاء الأمس كان في حالة خطرة طيلة الليل بسبب جلطة في القلب أو في المخ، وعندما عاد لوعيه، ارتفعت درجة حرارته بشكل مفاجئ. جمع الأطباء الذين لم يستطيعوا مطلقًا ربط الارتفاع المفاجئ في درجة حرارة المريض بجلطة في المخ أو القلب ونتائج تحليل الدم والبول والأشعة والفحوصات بالموجات فوق الصوتية من أجل الفحص الشامل للتشخيص الدقيق لمعرفة سبب ارتفاع درجة الحرارة، ورغم أنهم دعوا لجنة طبية مكونة من أشهر أطباء الجمهورية، فلم يستطيعوا تشخيص هذا الأمر العجيب الذي طرأ على صحة كاتب الشعب.
ويقال إن هذا الكاتب المسن الذي كرّس عمره لتطوير الأدب القومي في الاتجاه الصحيح كان يرتعد ودرجة حرارته مرتفعة ملتفًّا باللحاف، غائبًا عن الوعي. فقط قرابة طلوع النهار، فتح عينيه بعض الشيء قائلاً:
- هو فعل هذا بسببي...
ثم غاب عن الوعي مرة أخرى.
وكذلك قيل إن حالة "آتيلا ذردوشت" كانت خطيرة؛ فبعد أن عاد هذا المُضحي والمخلص للأدب من لقاء الرئيس، دخل حجرته دون أن يتكلم، وأغلق الباب من الداخل بالقفل، وبالرغم من أن أفراد الأسرة وكذلك الجيران الذين انضموا لهم بسبب صراخهم أخذوا في قرع الباب بعنف، فإنه لم يخرج من هناك، وبعد منتصف الليل بوقت طويل، كسر الجيران الباب، ودخلوا الحجرة، فوجدوا الرجل المسن جالسًا مُعوج الفم خلف المكتب.
ويقال إنهم في أثناء وضعه على النقالة وإنزاله على السلالم، حرك الفنان المسن بصعوبة لسانه النَّمِل داخل فمه قائلاً:
- هو فعل هذا بسببي...
كانت الاحتمالات الجديدة التي ظهرت على الساحة بشأن توزيع الرئيس منازل على كبار الكُتَّاب تختلط بالاحتمالات، ووترت الجو العام قبيل المنتدى...
كان مجموعة من الأشخاص يُثمنون هذه الحركة في الرئيس على أنها تهدف إلى إحراج هؤلاء الكُتَّاب الموهوبين الذين يتماشون بمهارة مع الجو السياسي العام المتقلب للدولة في السنوات الأخيرة، ويُعلنون للرؤساء المتعاقبين على كرسي الحكم "فروض الطاعة" المختلفة. أما طبقًا لما قاله الآخرون، فإنه بسبب عدم دراية الرئيس بالقوى الأدبية الشابة والموهوبة، يقوم بتنفيذ التقرير الذي يقدمه لفن الكلمة قبيل المنتدى لمؤلفي الأدب القومي المشاهير الذين يعرفهم منذ سنوات طويلة، والذين تفوح منهم رائحة النفتالين...
* * *
... عندما دخل "قولام حسينلي" إلى المركز متأثرًا بحلم ليلة أمس، كانت جزء من الطلائع الذين تجمعوا في مدخل الإدارة قد تفرقوا بالفعل... وعلى الرغم من أن السيد "دنيا قوجاجول" الرئيس المنتخب حديثًا لاتحاد الطلائع ذلك الشاب الأسمر الذي لا تُعرف مطلقًا من تعبيرات وجهه حالته المزاجية كان قد شبك قبضتي يده خلفه، وسار بخطوات قصيرة وسريعة تشبه مشية المصارع نحوه، فقال "قولام حسينلي" بصوت منخفض:
- أعرف، ولكن ليس لدي طاقة الآن يا "دنيا".
قال ذلك وكأنه دفع بصوته رئيس الاتحاد للخلف.
صعد "دنيا قوجا جول" خلف "قولام حسينلي" السلالم، وكأنه يُكلم نفسه، قال:
- كنت أريد أن أتبادل معك المشورة.
- بخصوص أي شيء كنت تريد التشاور؟...
- نحن أعددنا بيانًا.
- أي بيان؟ ... أنتم أيضًا تريدون منازل؟...
قال "قولام حسينلي" ذلك وهو يصعد السلالم، وقد استدار ونظر بكراهية إلى وجه "دنيا قوجاجول" الذي كانت تعلوه حمرة، وكأنه خرج للتو من مظاهرة.
- لماذا لا نطلب نحن أيضًا؟ نحن هنا نموت من الجوع، أولادنا تنام في بيوت الغرباء، أما الشيوخ الذين عندهم قصور في خمسين مكانًا تمنح لهم المنازل... شعر "قولام حسينلي" بالغثيان، هل يا ترى بسبب حديث "قوجا جول"، أم بسبب مناخ الحداد الذي يشعر به جراء الوفاة المفاجئة أمس لـ "كوسكون"، أم بسبب تذكر مقولة "هو يفعل هذا من أجل الأدب العظيم !" ... التي قالها "آغالابا" وهو يصيح في المنام بالأمس، أو لسبب أخر هو لا يدركه؟! وقال:
- اتركني وشأني يا "دنيا"، والله ليس لدي طاقة، افعلوا ما تريدون.
... جلس "فرج" في مكانه المعتاد في أحد أركان الغرفة على المقعد ذات المسند الضخم، كان ينتظره واضعًا قدميه الصغيرتين فوق بعضهما كالذي يجلس القرفصاء، ما إن دخل "قولام" حتى قال:
- هل تلفونكم لا يعمل؟
قال ذلك وتململ مكانه بقلق.
جلس الصديقان القديمان وجهًا لوجه حتى مساء ذلك اليوم، يشربان السيجارة تلو الأخرى، ويغوصان في ضباب التفكير وسط ضباب الدخان. وعندما مالت الشمس وحلَّ الظلام على نوافذ "قولام حسينلي" المُطلة على الشمال:
- يبدو أن الجسم المُسن لا يتحمل الفرحة.
قال "فرج" هذا وبلع ريقه، ثم سلَّط عينيه نحو "قولام حسينلي"، وأضاف قائلاً:
- أقصد المسنين.
قال "قولام حسينلي" شارد الذهن:
- حسنًا، لقد أصبح كل شيء معقدًا، أعقد مما نفهم.
دقَّ باب الحجرة قرابة المساء دقة خفيفة، وفُتح.
كان القادم هو "آغالابا"، لا يزال في هول أول أمس، لقد تعثر عند الباب أثناء دخوله، وكاد يخر على الأرض.
استاء "قولام حسينلي" من حال "آغالابا".
- ماذا حدث أيضًا؟...
- منحوا الشباب أيضًا منازل! ...
قال "آغالابا" هذا وهو متضايق وفي شدة الدهشة، وأضاف قائلاً:
- قد حدث الآن... بمرسوم رئاسي.
قال أيضًا إنه يقول شعرًا...
- من؟...
- الرئيس قال شعرًا من السلسلة الأخيرة لـ "صحت قورمجوي".
- "صحت" الذي نعرفه؟...
- نعم، من القسم الثاني لشعره المسمى "السماء الزرقاء".
قال "آغالابا" هذا، وكأن قواه قد خرت، وبحث عن مكان ليجلس فيه، ولكنه فكر في شيء ما، فظل واقفًا على قدميه مترنحًا.
نظر "فرج" إلى "قولام حسينلي" والشرر يُشع من عينيه، سلَّط "قولام حسينلي" نظره إلى "فرج"، ثم لسبب ما إلى حذاء "آغالابا" ذات الرقبة الطويلة، والذي كان يترنح عند الباب كالعلم...
* * *
أوصل "فرج" "قولام حسينلي" ذلك المساء حتى منزله، وقف الصديقان عند أسفل المبنى كثيرًا والمطر ينهمر فوق رأسيهما، وينظران لبعضهما.
رفع "فرج" ياقة معطفه الرث بيديه الصغيرتين، وقال وفكه يرتعش من البرد أو من موضع يشبه تيار بارد تخللهما منذ عدة أيام:
- إنني أخاف.
- ممَ تخاف؟...
على الرغم من أن "قولام حسينلي" قال هذا؛ فقد شعر أن ركبتيه تسترخي، كلما نظر إلى عيني "فرج" اللتين تُشعان بشرارات مائلة للزرقة وسط الظلام... كان "فرج" لا يتكلم، ابتلت عيناه من البرد، أم أصابت حلقه غصة؟... أدار "فرج" وجهه جانبًا وكأنه يُهزّه ببطء، أم هكذا يُخيل لـ"قولام حسينلي" ؟!...
- أتخاف أن يموت أحد من الشباب أيضًا؟...
على الرغم من أن "قولام حسينلي" قال هذا بين الجد والمزاح، فلم ينظر "فرج" نحوه، وأدخل يديه في جيب معطفه، وسار وسط المطر كالذي يسير وسط بحر مظلم، وغاب عن الأنظار.
عندما دخل "قولام حسينلي" المنزل، كان التلفاز يعرض لقاء الرئيس مع شباب الكُتَّاب.
كان الرئيس يقف عند الباب أثناء مغادرته القاعة ثانية، واستدار ورفع يده لأعلى، وقال شعر لأحد الشعراء أيضًا...
رأى "قولام حسينلي" "الرئيس" في المنام ليلاً.. كان الرئيس يقف مرتديًا بالطو أبيض خلف طاولة تعلوها قارورات لا حصر لها، وزجاجات متنوعة الأشكال مليئة بالمحاليل الحمراء والبنفسجية اللون، وكان مشغولاً بشيء ما... كان "قولام حسينلي" هو أيضًا في معمل الكيمياء هذا... كان يُتابع الرئيس الكيميائي من وراء ستار أحد الفواصل ذات غطاء قطيفة سميك... كان الرئيس يسلط إحدى القارورات المليئة بالمحلول إلى الضوء، وينظر لها بدقة لمدة، وكأنه كان مشغولاً بمعرفة درجة نقاء هذا المحلول، ثم وضع عدة قطرات بانتظام من زجاجة صغيرة بها محلول أخضر على المحلول الأحمر الموجود بالقارورة... فار المحلول الموجود داخل القارورة وعمل رغاوي، وتصاعد منه دخان، وغشي الدخان المكان... خرج طوفان الدخان متصاعدًا من فوهة القارورة، وملأ المعمل... وأخفت الرئيس، وكذلك الطاولة الضخمة المليئة بالقارورات... وملأ رئة "قولام حسينلي"، وأصابه بالسعال الخانق... وسُمع آنذاك صوت صارم للرئيس من مكان قريب من داخل الدخان يقول:
- لا تراقبني كثيرًا، يا "قولام"...
* * *
... دخل الرئيس من أحد الأبواب الأمامية للقاعة المليئة بالإضاءة الصاخبة بمبنى المسرح الأكاديمي القومي الذي سوف يعقد فيه المنتدى، وابتسم ابتسامة خفيفة للحضور الذين استقبلوه مُصفقين وهم واقفون، ولوح بيده بهدوء، وسار متخللاً الصفوف بشيء من الصعوبة بحذائه الجديد والأسود، وجلس.
تبع الرئيس مجموعة من الأشخاص المضطربين وهم حرس الرئيس، وجلسوا في الصف الثاني خلف الصف الذي يجلس فيه الرئيس.
بدأ المنتدى أعماله، كان كل من الصاعدين للمنصة يسلمون أولاً كنوع من الاحترام على الرئيس الذي يشارك في المنتدى على قدر استطاعتهم، ثم كالمعتاد في اللقاءات الأخرى، كانوا يتحدثون أيضًا عن الثروات الطبيعية للدولة، وإنتاج الغاز، وزراعة القمح... كان "قولام حسينلي" و"فرج" يجلسان جنبًا لجنب صامتين في الصفوف الخلفية. على الرغم من أن "قولام" أطل للخلف وبحث عن "دنيز" وسط الجالسين، فلم يجده.
قال "فرج" بهدوء ناظرًا إلى المنصة:
- لن يأتي.
- لماذا؟
- يقول: "أشمئز".
بعد كلام "فرج" هذا، تخيل "قولام حسينلي" "دنيز" أمامه واضعًا يديه تحت إبطيه، وينظر إلى الخارج من النافذة، وجاء وهو يقول:
- الفرق الذي بيننا وبين هؤلاء هو أنهم في المربعات السوداء للعبة الداما بهذه الدنيا، أما نحن ففي المربعات البيضاء... كان هناك جيل أدبي متوسط السن غاضب سيُقيل– من خلال خطاباته الحادة التي يُعدها منذ فترة– رئاسة الاتحاد التي لا تُبالي بإبداعاتهم وبظروفهم المعيشية منذ سنوات، وقد سُلِّطت الأنظار بغضب إلى رئاسة المنتدى أي إلى الأستاذ "وفا" الذي كان لا يُعرف بالتحديد إلى من ينظر من خلف نظارته ذات العدسات السوداء، والذي كان يجلس في الناحية اليسرى من القاعة.
قال "فرج" بهدوء دون أن يُدير وجهه إلى "قولام":
- أشعر أن شيئًا ما سوف يحدث.
- ماذا سيحدث؟...
- لا أعرف.
قال "فرج" هذا وكأنه شعر بالضجر، ثم أدار وجهه لـ قولام"، وقال وعيناه المُستديرتان مُحدقتان من الخوف وهو يجلس بجواره:
- ألم ترَ؟ ... يعرج.
هزَّ "قولام حسينلي" كتفيه، ولملم نفسه:
- ما المشكلة؟...
- ألم يكن يعرج؟...
كان "قولام حسينلي" مشغولاً طيلة الاجتماع بمتابعة الرئيس الذي كان يبدو فقط جزءًا من كتفه الأيسر من بين رؤوس الجالسين في الصف الأمامي. وكان الغريب في الأمر أن كتف الرئيس لم يتحرك ولو لمرة واحدة طيلة الاجتماع بالكامل، وكأن الرئيس وضع سترته هناك وذهب لمكان ما. فقط قرابة نهاية الاجتماع نهضت سترة الرئيس بهدوء مع الرئيس، وتحركت عندما كانت تسير نحو المنصة وهي تعرج عرجة خفيفة.
كلما سار الرئيس، وكلما احتكَّ حذاؤه اللامع الأسود بقدميه حكة خفيفة بسبب أنها جديدة أو لأي سبب آخر، فكر "قولام حسينلي" مليًا بشأن أن الذي يجعل الرئيس يعرج ربما هو هذا الحذاء الأسود والجديد الذي يلمع.
وقف الرئيس مدة على المنصة صامتًا، وتفقَّد القاعة شبه المظلمة بوجهه الحزين، وكأنه يبحث عن شيء ما، ثم بدأ الحديث عن أصالة فن الكلام، وقدرته، والإنجازات التي حققها الأدب القومي في السنوات الأخيرة– كما تطرق في حديثه لطبيعة الحس المرهف للفنانين الذين أبدعوا أعمالهم الفنية بدمائهم وأرواحهم، ثم ذكر أن هؤلاء الأبرياء يحتاجون إلى رعاية الدولة كثيرًا، وفي نهاية كلمته، وكما فعل في جميع اللقاءات السابقة للمنتدى رفع يده اليسرى لأعلى، وبحزن غريب أعلن أنه لتوه وهو قادم للمنتدى وقع مرسومًا بشأن منح شقة لكل واحد من أعضاء الاتحاد البالغ عددهم خمسمائة وستة وخمسون عضوًا اليوم.
خيم السكون للحظة على القاعة بعد هذا الإعلان المفاجئ للرئيس... غادر الرئيس المنصة ونزل وهو يعرج بعض الشيء من حذائه الجديد الذي يضغط على قدميه، شبَّك يديه خلفه، ودون أن يودع أحدًا مطلقًا، ودون أن يُصافح أحدًا مطلقًا، غادر القاعة تحت سكون غامض للقاعة ويعلو وجهه تعبير حزين.
كأن صوت الأبواب الثقيلة المغلقة خلف الرئيس قد أيقظ القاعة التي خيم عليها الصمت من هول الدهشة... وهزّت الجدران التي أصدرت ضجيجًا، وكذلك النجفة الضخمة.
شعر "قولام حسينلي" أن قلبه سقط في داخل معدته من التوتر، وأن الدموع التي تملأ عينيه تهتز وتتدحرج على خده... كان "فرج" لا يُصفق، وكان ينظر محدقًا عينيه إلى سقف القاعة المُتصدع الذي كان يطيش تحت وطأة التصفيق والهتافات الخانقة...
* * *
... أُدرج مرسوم الرئيس الجديد في اليوم التالي للمنتدى في جميع الصحف الرسمية. كان المرسوم ينص على منح شقة لجميع أعضاء الاتحاد تقديرًا لخدماتهم الجليلة من أجل تطوير الأدب القومي، كهدية لكُتَّاب المنتدى التاسع والثلاثين.
طبقًا للمعلومات المأخوذة من اتحاد الكُتَّاب قرابة منتصف اليوم، أنه يتم في إحدى الأحياء الأكثر ارتفاعًا في المدينة، وبعيدًا عدة كيلومترات عن المناطق السكنية، تخصيص مبنى كبير ذات عشرين طابقًا به خمسمائة وست وخمسين شقة في حي سكني صغير محاط بسور عالٍ.
حلَّ سكون غريب في المحيط الأدبي بعد هذا المرسوم للرئيس، تعرض "قولام حسينلي" لهزة عصبية جراء أحداث متلاحقة، وبدأ يرى في أحلامه بشكل مستمر هذا المبنى المخيف الذي لم تتح له الفرصة حتى الآن للانتقال إليه... كان أهل الفن العاطفيون الذين هم سكان هذا المبنى ذي الخمسمائة والست والخمسين شقة المحاط بسور عالٍ حصين من الأربع جهات يتجولون هنا ببيجامات خاصة كانت مُخططة أخضر وأصفر، كان كل اثنين أو ثلاثة مع بعضهم ينسلون إلى الأركان المظللة، ويقرأون على بعضهم آخر أشعارهم وقصصهم القصيرة، وكان موظفو أكشاك الصحف، والحلاق ومحلات المواد الغذائية الموجودة داخل فناء المنزل يرتدون ملابس خاصة أي أرواب بيضاء، وكانوا أيضًا يتحدثون مع بعضهم بلغة الإشارة، ويسيرون طيلة فناء المنزل على أطراف أصابعهم حتى لا يُزعجون نجوم هذا الأدب الذين يُحلقون في عظمة دنيا الفن،... كان "قولام حسينلي" لا يستطيع الخروج من منزله إلى الخارج لعدم امتلاكه بيجامة، وكان يُطل على فناء المنزل من النافذة ذي المصراعين العاليين، وكان ينادي على "فرج" الذي كان يلعب إحدى اللعب الشعبية القديمة مع الطلائع وهم يتجاذبون بعضهم بعضًا مرتديًا بيجامته ذات المقاس الكبير..